لم تجلب الحرب السورية المدمرة سوى الموت والخراب والدمار، هجرت آلاف الأسر، وحلت بلعنتها على القاصرات السوريات اللواتي اصطدمن بحياة لا رحمة فيها، فأصبح زواجهن المبكر سترةً وملاذاً لأسرهن للتخفيف عن كاهلها بعضاً من الأعباء المتراكمة.
لم يكن تزويج القاصرات حدثاً مستهجناً اجتماعياً في العديد من المناطق السورية قبل الحرب، بل جرت العادة على تزويج الفتيات في سن صغيرة، وذلك لأسباب عديدة أهمها ما كان شائعاً من عادات وتقاليد تدعم فكرة تزويج القاصر، كما أن الكثيرين في المجتمع السوري يعتبرون الزواج وسيلة لحماية "عذرية" الفتاة و"شرفها"، وبالتالي الحفاظ على سمعة الأسرة، وبعد اندلاع الحرب السورية ازدادت نسبة تزويج القاصرات بشكل كبير، وكان لتأزم الوضع الأمني في سوريا، وتخوف بعض الأسر من تعرض الفتاة للخطف والاغتصاب، وارتفاع مستويات البطالة والفقر، وكذلك عوامل النزوح واللجوء، نتائج سيئة على الفتيات القاصرات اللواتي تم تزويجهن، لتدفعن ثمن الحرب الدائرة في سوريا.
تلجأ الكثير من العائلات أو تضطر لتزويج بناتها في سن صغيرة، لـ "تأمين مستقبلهن" في ظل الحرب
تتفاقم ظاهرة زواج القاصرات في مخيمات النزوح بشكل خاص، حيث إنَّ عدداً كبيراً من الفتيات لا يذهبن إلى المدرسة لأن المدارس بعيدة، وإن ذهبن فإن أهلهم يخشون عليهم من الخطف، كما أنه لا يوجد اهتمام بالتعليم لدى النازحين الذين أكبر همهم تأمين متطلبات الحياة الأساسية، حيث إنّ الكثيرين من أولياء الأمور يزوجون بناتهن في سن مبكرة لأشخاص ميسوري الحال، ليخلصوهم من الحياة داخل الخيم التي لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء، حيث تسببت عمليات النزوح واللجوء بمفاقمة الضغط على الفتيات والنساء، وتقول منظمة الأمم المتحدة إن 70% من اللاجئين السوريين هم من النساء والأطفال، وتلجأ الكثير من العائلات أو تضطر لتزويج بناتها في سن صغيرة، لـ "تأمين مستقبلهن" في ظل الحرب، فازدادت نسبة زواج اللاجئات القاصرات في دول اللجوء بشكل كبير.
أسهمت حياة النزوح، واللجوء القسري، في مغازلة العادات والتقاليد بقوة الأمر الواقع، حيث فرضت على العائلات النازحة واللاجئة الاختلاط بعائلات كثيرة أخرى، وفرضت العيش المشترك بينهم، وكان عدم تقبل اللاجئين والنازحين لهذا الوضع دافعاً لتدخل من العائلة، أو من الشركاء في العيش، لتزويج القاصرات تحت عنوان السترة أو الحلال والحرام.
ويلعب العنف ضد الفتاة عاملاً في زواجها المبكر، ويشمل الأعمال التي تلحق بها ضرراً أو ألماً جسدياً أو عقلياً أو نفسياً أو جنسياً.
ومن أهم العوامل التي تسهم في انتشار ظاهرة زواج القاصرات:
- تفشي الفقر، وقيام بعض الأهالي بتزويج بناتهن قسراً لأغنياء، طمعاً بالسطوة والمال لأن هؤلاء يدفعون مبالغ طائلة مهراً لـ "العروس"، خاصة إن كانت صغيرة السن.
- اضطرار الأهالي في الداخل السوري للإسراع في تزويج بناتهم، خوفاً من أن يطلبها أحد عناصر الفصائل المسلحة للزواج، ولا مجال لرفضه.
- غيابُ الوعي لدى الأهالي الذين ما يزال قسمٌ كبير منهم يرى الفتاة "عاراً" و"مجلبة للفقر"، لذا يزوجونها باكراً لإزاحة "العبء" عن كاهلهم.
يتسبب زواج القاصرات بأمراض جسدية وأزمات نفسية كثيرة للفتيات، خصوصاً أنّ معظم المقبلين على الزواج لا يقومون بإجراء التحاليل المخبرية المطلوبة منهم قبل الإقدام على الزواج، ولا تتم مراعاة عدم نضوج جسد الفتاة واكتمال نموها قبل الزواج، ما قد يتسبب بأمراض وأزمات صحية نتيجة العلاقة الزوجية وأثناء الحمل وخلال الولادة وبعدها، وهذا ما يُعرّض الفتيات القاصرات لخطر كبير بسبب ضعف بنيتهنّ الجسدية وعدم قدرتهنّ على تحمل مثل هذه الأمور. وتتمثل مخاطر زواج القاصرات بأضرار على الفتيات أهمها، نقص الوزن بعد الولادة بشكل ملحوظ، سوء التغذية، تأخر النمو البدني عن أقرانهن، اضطرابات الدورة الشهرية وتأخر حدوث الحمل، وفي حال حدوث الحمل فإن ذلك يؤدي لازدياد نسبة الاختلاطات المرافقة مثل الإقياءات الحملية، والإجهاض، والولادة المبكرة وكذلك الولادة القيصرية، كما تسهل إصابتهنّ بالأمراض والالتهابات التناسلية، الأمر الذي قد يتطور لأمراض خطيرة مع مرور الوقت.
يترتب على زواج القاصرات أزمات كبيرة ومشكلات تضر بالمجتمع وتزيد من حالة تفككه، وأبرز هذه المشكلات هي ارتفاع نسبة الطلاق
ومع انعدام التهيئة النفسية الصحيحة فإنّ الفتيات تصبحن عرضة للأمراض النفسية أيضاً، بسبب عدم استيعابهنّ لفكرة الزواج وتحمّل مسؤوليات كبيرة لم تكن موجودة في حياتهنّ، ومع مواجهتهنّ لمشكلات أسرية قد يتعرضن لاضطرابات نفسية، مثل اضطراب الاكتئاب والوسواس القهري وفصام الشخصية، وغيرها من الأمراض النفسية، ناهيك عن افتقادهنّ لمرحلة الطفولة التي حُرموا منها بسبب إجبارهنّ على الزواج بسن صغيرة، وما يترتب عليها من مشكلات تُضعف الشخصية وتقلل من نسبة الاعتماد على الذات، كما يترتب على زواج القاصرات أزمات كبيرة ومشكلات تضر بالمجتمع وتزيد من حالة تفككه، وأبرز هذه المشكلات هي ارتفاع نسبة الطلاق، فمن الصعب الحصول على التفاهم المطلوب بين الزوجين في حال كانت الزوجة طفلة لا تملك الإدراك الكافي لاستيعاب الزواج ومتطلباته، إضافة إلى أنه غالباً لا يكون الزواج قرارها واختيارها.
وفي الختام فإن المجتمع السوري بات أمام ظاهرة خطيرة جداً، تهدد التماسك الأسري والروابط القوية التي تميز بها عبر تاريخه الطويل، ما يتطلب البحث عن حلول عاجلة لوقف تداعيات هذه الظاهرة على المدى الطويل.