الجدلية المستمرة التي أرّقت أبناء المنطقة منذ عشرات القرون، وجعلتهم مفصلاً مهماً في كل صراع عبر العصور، لتتكرر الأسئلة ذاتها: من نحن؟ هل نحن لبيزنطة أم لفارس، آشوريون أم آراميون، شآميون أم عراقيون؟ إنهم أبناء الجزيرة الفراتية أو ما بات يطلق عليها اليوم مسمّى منطقة "شرق الفرات"، ذلك النهر الذي طالما شكل نقطة امتزاج بين هوية ياسمين دمشق ونخل بغداد.
الحديث عن تلك المنطقة يزداد إلحاحا مع المتغيرات الجديدة حينما سقط نظام الأسد وعادت سوريا حرة، لتعم الأفراح الساحات والميادين تغنيّا وترنّما وعزفا لموسيقا الحرية على وتر الجرح النازف منذ 14 عاماً، وليجد السوريون شيئا ما ناقصا في سماء هويتهم؛ ماذا عن شرق الفرات؟ هل هي بالفعل سورية الهوية والثقافة والمصير والجغرافيا؟
الجزيرة والشام في الجغرافيا
يعرف ياقوت الحموي بلاد الشام في كتابه "معجم البلدان" بقوله: "بلاد الشام من تبوك جنوباً إلى جبال طوروس شمالاً ومن الموصل شرقا إلى البحر المتوسط غرباً".
ويعرف الإدريسي في كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" مدن إقليم الجزيرة قائلاً: "والجزيرة ما بين دجلة والفرات ومدن الجزيرة هي الرقة والرافقة والخانوقة وباجروان وعربان وسكير العباس وطابان وتنينير والمحمدية وقرقيسيا والرحبة والدالية وعانة وهيت والرب والأنبار وصرصر والقطر وسورا والكوفة وماكسين وسنجار والحضر والموصل وبلد وجزيرة ابن عمر وبرقعيد وأذرمة ونصيبين ورأس العين وماردين والرها وحران وسروج وجريان وجرنيص وطنزى وحيني وآمد ونينوا وفيسابور وقردى وبازبدا ومعلثايا وسوق الأحد والحديثة والسن وبارما وكل هذه بلاد الجزيرة".
فمنطقة الجزيرة السورية بحسب التقسيم الجغرافي هي جزء من بلاد الشام، وعلى مر العصور كان مصيرها مرتبط بمن يسيطر على سوريا، وفي العهد الروماني والبيزنطي كانت تتبع للدولتين المتعاقبتين خلافا للعراق الذي كان يتبع في غالب الأحيان للدولة الفارسية.
الجزيرة السورية تاريخيا
وباعتبار مناطق شرق الفرات آخر منطقة ترتبط بمصير سوريا سياسيا في تلك العصور كانت ساحة حروب بين الدول التي تسيطر على العراق وسوريا، حتى في أثناء الفتح الإسلامي كانت من نصيب الجبهة الشامية على يد الصحابي عياض بن غنم، وفي عهد عثمان بن عفان أصبحت بلاد الشام بالمطلق تحت إمرة معاوية بن أبي سفيان وكان سلطانه ممتدا إلى الجزيرة السورية. وفي فترة النزاع بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان بعد مقتل عثمان كانت الجزيرة السورية في معظم الفترات تتبع لمعاوية ولم يستطع الأشتر النخعي المولّى من قبل علي أن يستقرّ فيها بسبب الميول الشامية عند أهلها.
وعندما خاض عبد الملك بن مروان الأموي أشرس معاركه ما كان له أن يبسط سيطرته على العراق ويثبت أركان حكمه لولا مبايعة أهالي الجزيرة الفراتية له بقيادة زفر بن الحارث الكلابي له، وفي معركة الزاب الشهيرة بين مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين وعبد الله بن علي العباسي كان أهل الجزيرة في صف الأمويين ودفعوا من أجل ذلك فاتورة دم عالية بعد سقوط الدولة الأموية، وفي عهد الخليفة العباسي المأمون شهدت منطقة شرقي الفرات أشهر ثورة ضد الحكم العباسي، وهي ثورة نصر بن شبث العقيلي الذي دوخ جيوش المأمون لأكثر من 10 أعوام، وخرج الجزيرة بشكل كلي عن السلطة العباسية.
ومع تفكك الدولة العباسية ونشوء الدول شبه المستقلة كانت منطقة الجزيرة تخضع لمن يسيطر على حلب أو دمشق، في الدولة الحمدانية ثم العقيلية والزنكية والأيوبية والمملوكية كذلك، وفي العهد العثمانية عندما انتصر السلطان سليم الأول في معركة مرج دابق على المماليك خضعت الجزيرة الفراتية بشكل تلقائي للدولة العثمانية وعلى هذا الحال استمرت رغم التقسيمات الإدراية العثمانية التي ولايات حلب والشام ولواء دير الزور لكنها كلها ضمن سوريا المعروفة بحدودها الحالية التي رسمت بعد الانتداب الفرنسي على سوريا حتى الوقت الحاضر.
الفرات.. مورد مالي وشعب طارئ!
هذا السرد التاريخي ليس الغرض منه سياسيّاً بالدرجة الأولى، وإنما لتبيان دور الوحدة السياسية لمنطقة الجزيرة مع بلاد الشام في اكتساب أهالي هذه المنطقة هويتهم الثقافية السورية، وأن المنطقة ليست مجرد مورد مالي من النفط والزراعة فحسب، وإنما شعب أصيل في سوريته بأفراحها وأتراحها، وليسوا كما يقال عنهم في أوساط النظام البائد أنهم عراقيون على أرض سورية، أو كما صورتهم دراما نظام الأسد على مدى عقود، بأنهم شعب طارئ ليس له من نصيب الشاشة إلا مشاهد تستحضر عند الازدراء؛ عربا كانوا أم كردا أم سريانا وآشوريين.
وبما أن الحديث ليس سياسيّ الهدف باعتبار الأمور لا تسير وفق توقيت عواطفنا، وإنما هو من أجل التذكير بأنّ هويتنا الثقافية ناقصة دون تلك المنطقة، التي لا تخفي قسمات وجوه أهلها علامات الفرح الناقص الذي يزداد قتامة كلما أحسوا باستمرار التهميش الموروث عن نظام الأسد في بعض النواحي، وليس كلها، إذ لم تخف المدن السورية المحررة في احتفالاتها غصتها بعدم تمكن أهلهم في الجزيرة السورية من إكمال هذا الفرح.
وربما على السوريين اليوم تحمل قسوة العتاب الأخوي من أهل الجزيرة الذين لما يخرجوا بعد من رهبة المظلومية التي فرضها النظام المخلوع على أهل المنطقة تهميشاً من كل النواحي، حتى وصل التهميش إلى الإنسان الكامن في وجدان أهالي المنطقة، فلا يُذكر كرمهم إلا على سبيل وصفه بالتبذير وقلة التدبير، ولا يُذكر لباسهم الفلكلوري العربي الأصيل، إلا على سبيل وصفه بالتخلف، وحتى نطقهم للحروف تستحضر على سبيل التنكيت في المسلسلات التي ينتجها نظام الأسد.
في هذه الأيام يحتاج ورق الصفصاف الذي تشتهر به ضفاف الفرات والخابور، إلى أن يلامس الياسمين الدمشقي في كل النواحي، والمواويل الفراتية كذلك تحتاج إلى الامتزاج بالعتابات السورية في بقية المناطق حتى لا نضيّع "ذياب مشهور" وأغنيته "يا بو رديّن" مجددا!