عندما دعاني الصديق الدكتور وائل فاروق، الأكاديمي المصري وأستاذ اللغة العربية في "الجامعة الكاثوليكية" في ميلانو، لإلقاء محاضرة عن سوريا أمام طالبات وطلاب الماجستير من الإيطاليين المهتمين بالعالم العربي وبالثقافة العربية.. تدفقت في رأسي، أثناء التحضير، أفكار وعناوين عديدة يمكن من خلالها الخروج بمحاضرة تترك أثراً ما لدى الحضور.
وقعَ اختياري على محورين: تطوُّر الصحافة السورية منذ بداية تأسيسها وحتى اليوم، ودور المثقفين السوريين في السجالات الفكرية والمعرفية العربية خلال فترةٍ انقضت، ولا يبدو أنها سوف تعود. المحوران مرتبطان ببعضهما، بشكل أو بآخر، لكنّ تمايزاً أساسياً تُمكن ملاحظته على صعيد المقارنة بين الصحافة من جهة، من حيث علاقتها "التكتيكية" والآنيّة بما هو يومي وخبري ولحظي، وبين السجالات التي تحوّلت إلى كتبٍ "استراتيجية" تموضعت ولا تزال تتموضع على رفوف مكتباتنا، بالأمس واليوم.
ثمة تمييز آخر يبدو ضرورياً أيضاً، ذلك أن البقاء في إطار المجرّد والنظري، لدى الحديث فقط عن السجالات التي تناولت التراث والاستشراق والإسلام والحداثة وغير ذلك، بعيداً عن الميدان والأرض التي تميد يومياً تحت أقدام السوريين، سيتبدى انفصالاً عن الواقع. في المقابل، سيكون الحديث عن الصحافة السورية وخصوصاً بعد التطورات التي طرأت عليها في سوريا وفي معظم العالم، من دون عدّة معرفية تُمنهج هذا النقاش وتُحقّبه وتُبرز رموز تلك الحقب ومثقفيها، كلاماً يترك المجال للشعبوية المنتشرة في بلادنا، والتي تقلل من شأن الثقافة والفكر و"النظرية"، وبدواعٍ عديدة ليس الوحيد من بينها شعار: لا صوت يعلو فوق صوت "المعركة".
الصحافة السورية بين خلافتين
تحت هذا العنوان، وبين الفترة العثمانية وثورة عام 2011، كان الحديث عن تطور الصحافة السورية خلال أكثر من مئة وخمسين عاماً، منذ صحيفة "مجموع فوائد" التي أصدرها رزق الله حسون الحلبي عام 1851، وصولاً إلى زمن ما بعد الثورة السورية، وبينهما فترة الانتداب الفرنسي والاستقلال والوحدة السورية المصرية ثم انقلاب البعث، وحقبة الأسدَين الدموية. كانت ملامح الدهشة والاهتمام تطبع وجوه الحضور وهم يستمعون إلى مراحل تطور الصحافة في بلد اكتشفوه قبل سنوات قليلة فقط، عبر الجامعة ودراستهم فيها. قد يحلو للبعض أن يتهم هؤلاء بـ "الجهل" أو "قلة المعرفة" أو "عدم الاهتمام" أو "تمركزهم ضمن نظرة الرجل الأبيض" على ما تقول "كليشيهات" عربية كثيرة رائجة.
غير أنهم ليسوا كذلك بالطبع، وهم أنفسهم لم يجدوا صعوبةً، مثلاً، في فهم العبارة الساخرة للصديق حازم صاغية حول الإعلام السوري قبل عام 2011، والتي نقلتُها لهم أثناء المحاضرة، ومفادها "وجود محطتي تلفزيون فقط في سوريا، إحداهما تستعرض حافظ الأسد يخطب ويستعرض في الجيش، وفي الثانية يظهر عنصر مخابرات يلوّح للمشاهدين بالعصا، كي يعودوا إلى المحطة الثانية".
من ناحية ثانية، لا يخفي كاتب هذه السطور مشاعره عندما عرَف أن معظم الطلاب هم من غير المتابعين للشأن السوري بشكل عميق، فقد كان أي سؤال محتمل يواجهه حول الخطاب الطائفي لبعض "السياسيين" و"الناشطين" و"الكتاب" المعارضين، وما تمتلئ به وسائل التواصل الاجتماعي من تحريض وطائفية وتطرف ديني، ومن تبرير سوري لهذا التطرف.. كفيلاً بأن يدفعه لإطلاق العنان لأفكاره وبكامل الحرية المكفولة هنا في الغرب، وبعيداً عن التجميل و"الترقيع" الرائج سورياً، لنقد وتفكيك هذه "الخطابات السورية" دون مهادنة.
غيرَ أنني، وبطبيعة الحال، لم أوفر تياراً من تيارات الإسلام السياسي، ولا تياراً وفصيلاً جهادياً من النقد والتفكيك، لدى الحديث في المحاضرة إياها عن جرائم النظام وجرائم الإسلام الجهادي بحق الصحفيين والإعلاميين والناشطين السوريين وغير السوريين ممن عملوا في سوريا.
هكذا، كانت أسماء الشهداء والمختطفين حتى اليوم، مثل جهاد الأسعد وعلي الشهابي وعمر عزيز وباسل شحادة وماري كولفن والأب باولو، ورزان زيتونة وسميرة الخليل وعبد العزيز الخيّر وآخرين غيرهم، حاضرة بيننا، وتُكتب على الشاشة الضوئية وعلى أوراق الموجودين في قاعة المحاضرات، لتتحول إلى ما عرفت لاحقاً أنها مشاريع لدى بعضهم.
حوار بلا حوار
في المناسبة حولها، كان الراحلان جورج طرابيشي وصادق جلال العظم مثالين واضحين على دور السجال والمطارحات الفكرية الكبرى في عملية "إنتاج المعرفة". فإلى جانب كونهما أستاذين لعدد كبير من الكتّاب والباحثين والدارسين السوريين والعرب، وتركا بصمة كبيرة في علاقتنا مع عالم الفكر والفلسفة.. كان كل منهما، أيضاً، قُطباً في سجالاتٍ مع مثقفين عرب آخرين، سجالات يستحضرها كثيرون عند تناول القضايا التي كان النقاش حولها رائجاً في فترة معينة، وخصوصاً ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. طرابيشي مساجلاً محمد عابد الجابري، والعظم مساجلاً إدوارد سعيد، وهؤلاء الأربعة رحلوا جميعهم عن هذه الدنيا.
بعد وفاة محمد عابد الجابري، كتب جورج طرابيشي وداعاً له بعنوان "ربع قرن من حوار بلا حوار"، تحدث فيه صاحب مشروع "نقد نقد العقل العربي" عن الأمل الذي كان يراوده بأن يقرأ رداً أو ردوداً من الجابري على نقده له، وهو ما لم يحصل، والتزم الجابري الصمت رغم العمل الموسوعي والمرجعي والجهد الكبير الذي بذله طرابيشي في تناول نتاج الجابري.
تتكرر حالة اللاحوار لدى التعاطي مع السجالات والردود التي تناولت كتاب إدوارد سعيد (الاستشراق)، وسعيد لم يرد على أي من نقاده العرب، كمهدي عامل وآخرين غيره، بل فضّل الجدال مع برنارد لويس مثلاً، باستثناء مراسلاته مع صادق العظم والتي يمكن إدراجها في خانة أي شيء إلا السجال.
قصارى القول، إن هؤلاء الأربعة وبصرف النظر عن درجة الاتفاق أو الاختلاف معهم، ولا يخفى انحيازي إلى "عقلانية" طرابيشي والعظم على حساب "خصمَيهما"، أسسوا مرجعيات رمزية، ومدارس لها مريدوها ودارسوها ونقادها حتى اليوم، رغم ضيق أو انعدام مساحة السجال الجدّي في أيامنا هذه، لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها في هذه العجالة.
عود على بدء. خرجتُ من المحاضرة بعد نقاش دار مع الطلاب على هامشها وفي نهايتها، وعدتُ إلى دراستي الجامعية وإلى المحاضرات المطلوبة مني في امتحاناتي القادمة، مفضلاً الابتعاد عن الأخبار اليومية لفترة، ومستعيداً بعض السجالات الجدّية المنقرِضة، هنا وهناك، في أوقات "الراحة" النسبية. غير أنني اختلستُ النظر إلى أحد مواقع التواصل الاجتماعي، لأجدَ "سجالات" سوريةٍ - سورية من طراز خاص ومعتاد منذ سنوات.
لكن، وقبل أن يتسلل الإحباط إليّ مجدداً، جاءني اتصال مفاده أن إحدى الزميلات في الجامعة، ممن حضروا المحاضرة، قد اعتمدت الصحافة السورية وتطوّرها موضوعاً لورقة بحثية تعمل على إنجازها.