شهدت محافظة درعا حراكاً شعبياً واضحاً ومميزاً في مواجهة انتخابات الرئاسة السورية، ووصف العديد من أبناء المحافظة هذا الموقف بأنّه الحالة الطبيعية بعد ما قدّمه الناس هناك منذ انطلاق الثورة على أراضيها في آذار 2011. وقد تعامل النظام بشكل مضطرب مع هذا الواقع، فبدا كأنه لم يتوقع هذا الأمر، خاصّة أنه ركَنَ إلى غرور انتصاراته العسكرية بدعمٍ مكثّفٍ من حلفائه، وبموافقة ضمنية، إن لم تكن علنية ممن وُصِفوا ذات يوم بأنهم أصدقاء الشعب السوري.
انتظر النظام أياماً عديدة قبل أن يبدأ بالتضييق على أهالي المحافظة عموماً، وعلى أهالي درعا البلد مهد الثورة ورمز بقائها وصمودها خصوصاً. من المهم توصيف حالات التضييق هذه بالقدر اللازم لفضح الأساليب الهمجية للنظام ومن خلفه الروس، ولإيضاح الآثار الخطيرة بعيدة المدى على الناس هناك، مع التضامن الكامل مع أهلنا المحاصرين.
أغلقت قوات النظام العسكرية والأمنية الطرقات على بقعة واسعة من مدينة درعا، تشمل أحياء البلدة القديمة والعباسيين والمنشية والأربعين والكرك وطريق السد والمخيم ومزارع الشياح والنخلة والخوابي والرحية، ويسكن في هذه المناطق ما يقرب من أربعين ألف نسمة حسب تعداد غير رسمي. منعت هذه القوات خروج الناس من هذه الأحياء ودخولهم إليها. لا يوجد سبيل للمرضى لتلقي العلاج أو الحصول على الأدوية، لا مجال لوصول المواد الغذائية الآن، وأساساً لا توجد خدمات تقدمها الدولة في هذه المناطق، فكان السكان مضطرين للخروج إلى مناطق سيطرة النظام التقليدية للتسوّق والعلاج والعمل.
سيعيش أهلنا في المناطق المحاصرة حالة ضنك شديدة لكنهم لن يستسلموا، خاصّة إذا عرفنا أنّ أهل المناطق الثائرة في سوريا كلها كانوا قد مرّوا بأوقات عصيبة، تعتبر هذه بالمقارنة معها "لعب عيال" كما يحلو لإخوتنا المصريين وصف مُستسهل المصائب. لكنّ ذلك يفرض على السوريين جميعاً أن يهبّوا لنجدة أهلهم بكل الطرق الممكنة، وسيكون لنا في مقال آخر حديث عن الأدوات الممكن استخدامها لتحقيق هذه الغاية.
جاءت حالات التصعيد هذه المرّة بأوامرَ من الجنرال الروسي المفوّض في المنطقة الجنوبية، فقد طُلب من الأهالي عبر الوجهاء المحليين وقادة الرأي تسليم السلاح الفردي الموجود بشكل طبيعي بكل بيت في سوريا خاصّة بعد اندلاع الثورة وتحوّلها إلى المسار العسكري. وبالطبع كان الرفض هو ما سمعه الروس والنظام من خلفه.
لفهم طبيعة الأمور وآلية التعامل بين الأهالي من جهة والنظام والروس من جهة ثانية لا بدّ من شرح بعض النقاط الهامة. فالروس يتلقون التقارير المكتوبة من أجهزة مخابرات النظام، وهذه التقارير تتضمن بكل تأكيد معلومات خاطئة ومضللة ومحرّفة عن عمدٍ وسابق تصميم، فتصف الأهالي بالإرهابيين. ما يقوم به الأهالي بالمقابل، شرح الواقع الحقيقي للجنرالات الروس خلال مقابلاتهم الوجاهية، ويأخذونهم في جولات ميدانية لتعزيز قناعاتهم. المشكِلة أنّ الضباط الروس بالعموم مرتشون وفاسدون، لذلك يتمّ استغلال هذا الأمر من قبل مخابرات النظام بحيث تتكامل الرشى مع التقارير الحاقدة لتأخذ مفعولها. وقد تنبّهت القيادة الروسية العليا لهذا الأمر، فأصبحت تغيّر قادتها الميدانيين كل ثلاثة أشهر، وهذا ما خلق صعوبات جمّة أمام الأهالي ببناء علاقات ثقة مبنية على الاحترام خلال هذه الفترة القصيرة. فكانت الأزمة الحالية نتيجة تبني الجنرال الروسي لرواية النظام بشكل مطلق.
يدرك السوريّون أينما كانوا أنّ الحال في سوريا لن يعود إلى سابق عهده قبل الثورة، فالنظام وإن استطاع استعادة كثير من المدن والقرى التي خرجت عن سيطرته، إلا أنّه بات عاجزاً عن استعادة هيبته ورهبته في عيون السوريين. لم يبق له من ستر سوى القوّة العارية المدعومة بسلاح الجو الروسي وبميليشيات إيران الداعمة لقبضة أجهزته الأمنية والعسكرية، وكلّ هذا لم يمكّنه من إجبار أهالي حوران على المشاركة في انتخاباته المزيّفة.
يدرك السوريّون أينما كانوا أنّ الحال في سوريا لن يعود إلى سابق عهده قبل الثورة، فالنظام وإن استطاع استعادة كثير من المدن والقرى التي خرجت عن سيطرته، إلا أنّه بات عاجزاً عن استعادة هيبته ورهبته في عيون السوريين
في الجنوب السوري حراك شعبي لم ينقطع، وفي حوران بالأخص إصرار على إيصال الرسالة للعالم أجمع بأنّ الشعب لا ينهزم، هي إرادة الحياة الحرّة مقابل إرادة القهر والاستعباد. لكنّ هذا وحده لا يكفي كما قلنا سابقاً، يجب أن يتحرك السوريون بما يمكنهم لمنع تكرار حالات الحصار المريرة التي شهدتها مدن الغوطة وريف دمشق وحمص من قبل. يجب على القوى الوطنية السورية المسارعة إلى مخاطبة الدول الفاعلة في الملف السوري والهيئات الدولية لمنع النظام من التمادي بهذا الحصار ووقفه على الفور.
لقد بادر المجلس السوري للتغيير بعقد لقاءٍ يوم الإثنين في 28/6/2021 بين القوى المحلية في محافظة درعا، ضمّ وجهاء محليين وقادة رأي من أهل المحافظة المقيمين في الخارج والداخل. ويحضّر المجلس أيضاً لعقد لقاء للقوى الوطنية السورية يومي السبت والأحد في الثالث والرابع من تموز الجاري، لاستكمال سبل التواصل وتفعيل آليات مناصرة أهلنا المحاصرين.
انتظر السوريون عموماً نتائج قمّة بايدن – بوتين، ومن حقهم أن يبحثوا عن أمل ضائع في ثنايا المصالح الدولية المتشابكة. ورغم ضآلة حجم المشهد السوري على خريطة الدول العظمى، فإنّ المشهد هذا هو ذاته كلّ شيء بالنسبة للسوريات والسوريين، إنّه وجودهم ومصيرهم ومستقبلهم. لكن يبدو أنّ الروس لم يفهموا، أو بالأحرى لا يريدون أن يفهموا، أنّ الأسباب التي دفعت السوريّين للثورة ضدّ نظام الأسد قد تضاعفت آلاف المرّات عمّا كانت عليه قبل عقد من الزمن. إنّ مقاربتهم للأمور من منطلق ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة – التي تتجسد سورياً ببشار كما تتجسد روسياً ببوتين – لم يعُد يعني السوريين – كلّ السوريين – بأي شيء، فأين هي الدولة وأين هي المؤسسات، حتى بالنسبة للحاضنة الحقيقية للنظام؟ لقد تبخّرت مع الزمن وباتت شيئاً من الماضي والذكريات، ولولا أجهزة الأمن والقوّة المسلّحة الصرفة لما بقي في سوريا إنسان واحد ليحكمه الأسد وحلفاؤه.
من هنا، وجب علينا أن نعمل لتحقيق أهدافنا دون أن ننتظر شيئاً كثيراً من المحتل الروسي أو من غيره، السياسة مصالح، ومصلحة السوريين في نظر السوريين فوق كل اعتبار وهكذا يجب أن تبقى. إنه نداء الواجب الوطني والثوري، فدرعا لا تمثّل أهلها ولا نفسها، درعا تمثّل سوريا الحرّة، درعا تمثّل الثورة، وواجب الدفاع عن سوريا وعن الثورة ليست مهمة أهالي درعا فقط، إنها مهمّة كلّ السوريات والسوريين. يجب كسر الحصار عن درعا مهد الثورة، وعلينا أن نبذل ما في وسعنا وأكثر للقيام بذلك، وإلا فإنّ لعنة جديدة للتاريخ ستلحقنا كما لحقتنا يوم خذلنا القصير وحمص وحلب والغوطة.