منذ إعلان الولايات المتحدة الأميركية على لسان رئيسها السابق ترامب القضاء على تنظيم الدولة "داعش" في سوريا في العشرين من الشهر الثالث من عام 2019 بعد معركة الباغوز الشهيرة، وما تبعها من قتل لزعيم التنظيم أبو بكر البغدادي في الريف الأدلبي ووزير حربه أبو حمزة المهاجر، ومن ثم تصفية معظم قادة التنظيم في مناطق متفرقة من سوريا والعراق، اختفى نشاط التنظيم بشكل شبه تام إلا من بعض العمليات المحدودة الزمان والمكان.
وكنا نعرف تماماً أن هذا التنظيم لن يغيب عن الساحة طويلاً نظراً لدوره الوظيفي في سوريا المتمثل في استخدامه كشماعة لبقاء القوات الأجنبية على الأراضي السورية حتى ترتيب حل نهائي لمستقبل سوريا من جهة، ولاستخدامه كغطاء لتصفية بعض الحسابات بين فرقاء النزاع على النفوذ في سوريا من جهة أخرى، وهذا ما حدث فعلاً إذ ظهر التنظيم بعد اختيار أبو إبراهيم الهاشمي القرشي "حجي عبد الله قرداش" زعيماً جديداً للتنظيم، واستجماع قوته وأتباعه أسلوبا جديدا واستراتيجية جديدة قديمة تعتمد على المركزية أسلوبا مع إعطاء صلاحيات شبه مطلقة لفروع التنظيم حول العالم في تحديد الأهداف وشن الهجمات وتدبير شؤون التمويل، وهذا أدى بدوره إلى اتباع أسلوب حرب العصابات بما في ذلك الكمائن والإغارات والاغتيالات والحرص على عدم التشبث بالأرض لمنع وقوع مواجهات مباشرة مع أي قوات نظامية.
التنظيم اتخذ السلسلة الشرقية لجبال تدمر كمعقل يتحصن به نتيجة طبيعتها الجغرافية المعقدة وصعوبة الوصول إليها عبر الطرق البرية
وهذا ما ظهر في الفترة القريبة الماضية حيث ظهر نشاط التنظيم بشكل متقطع في منطقة البادية السورية الممتدة من مدينة تدمر في الريف الحمصي الشرقي وصولاً إلى الريف الغربي لمدينة دير الزور، ومن قرية الطيبة شمال بلدة السخنة إلى المحطة الثالثة لنقل النفط "T3" جنوب الطريق الواصل بين مدينة تدمر ومحافظة دير الزور، حيث تركزت في محيطه معظم هجمات التنظيم ابتداءً من منطقة قباقب إلى هريبشة وصولاً إلى بلدة أرك شرق تدمر، وامتدت عمليات التنظيم إلى أقصى غرب المنطقة أي إلى منطقة السعن التي تقع غرب سلسلة جبال تدمر الشرقية وشرق مدينة حماة، وهذا يدل وبشكل واضح أن التنظيم اتخذ السلسلة الشرقية لجبال تدمر كمعقل يتحصن به نتيجة طبيعتها الجغرافية المعقدة وصعوبة الوصول إليها عبر الطرق البرية، واحتوائها على مغر وكهوف كثيرة وكبيرة المساحة تعتبر حصونا طبيعية تستوعب أفراد التنظيم ومعداته بسهولة.
وما ساعد التنظيم كثيراً في عملياته الجديدة تغلغله في صفوف المدنيين في تلك المناطق والمناطق المحيطة بها كخلايا نائمة تقدم المعلومات اللوجستية لتحرك أرتال جيش الأسد وحلفائه الروس والميليشيات الإيرانية ومرتزقتها في تلك المناطق، إذ قام التنظيم بتنفيذ عدد من عمليات الإغارة على مدينة تدمر وبلدة السخنة وقتل خلال هذه العمليات العديد من قوات الأسد والميليشيات التابعة له، بل امتدت يده للقوات الروسية فقتلت لواء في الجيش الروسي شرق بلدة السخنة إثر زرع عبوة ناسفة أدت إلى مقتله وإصابة عدد من الجنود المرافقين له، وبهذا عاد التنظيم لنشاطه ونفذ العديد من العمليات المماثلة استهدف من خلالها أحد قادة ميليشيا الدفاع الوطني في ذات المنطقة وبذات الأسلوب.
أعتقد أن الميليشيات الإيرانية هي من تقوم بهذا الدور لأسباب أهمها ثني القوات الروسية عن التمركز في منطقة وجود الميليشيات الإيرانية في المنطقة الشرقية
ولعل العملية التي استهدف من خلالها رتل من جيش الأسد الموالي لروسيا في منطقة قباقب غرب مدينة دير الزور يثير كثيرا من التساؤلات حول العملية وتوقيتها والدافع وراء تنفيذها خصوصا بعد تنفيذ عملية مماثلة للأولى وبالأسلوب نفسه، والمستهدف في العمليتين هم جنود من جيش الأسد الموالين للروس، وهذا يؤشر أن هناك جهة تقوم بهذه العمليات تعمل تحت غطاء تنظيم داعش للتمويه على حقيقتها، وأعتقد أن الميليشيات الإيرانية هي من تقوم بهذا الدور لأسباب أهمها ثني القوات الروسية عن التمركز في منطقة وجود الميليشيات الإيرانية في المنطقة الشرقية، وخاصة المعبر الحدودي في البوكمال ومنطقة الميادين التي بدأت تتمركز بها القوات الروسية منذ فترة قصيرة، ولعل العملية الأخيرة التي جرت في الريف الشرقي لمدينة حماة في منطقة السعن والقريبة جداً من معقل حاضنة الأسد خير دليل على هذا، وإسراع جيش الأسد لتشكيل غرفة عمليات قتالية مشتركة في المنطقة لمحاربة التنظيم حسب المعلومات المسربة، والعزوف عن تشكيل هذه الغرفة في اللحظات الأخيرة بسبب معرفة أجهزة مخابرات الأسد حقيقة الهجمات والهدف منها ومن ورائها، والتي تتركز حول إشغال قوات الأسد الموالية للروس بعملية الدفاع عن نفسها ضد الهجمات التي تتعرض لها والتي تظهر وكأن داعش هي من تقوم بها من أجل منع الروس من تنفيذ مخططهم في التغلغل في المنطقة الشرقية والمسيطر عليها من الميليشيات الإيرانية عبر قاعدة الإمام علي.
كل هذا لا يدعونا للتقليل من وجود جهود حقيقية لتنظيم داعش في تنفيذ عمليات مؤثرة على جيش الأسد والميليشيات الموالية له تحقيقا لاستراتيجيتها الجديدة في تنفيذ هذه العمليات لتقول للجميع إننا هنا موجودون ولم يتلاشَ تنظيمنا بخسارة معركة الباغوز وغيرها، بل نحن مستمرون في جهادنا حتى تحقيق ما نصبوا إليه.
إن العلاقة التي تربط بين أجهزة مخابرات الدول الفاعلة في الثورة السورية والتنظيمات الراديكالية وعلى رأسها تنظيم داعش والنصرة وأخواتها، أكدتها الأحداث التي مرت بها الثورة السورية كما أكدتها تسريبات إيميلات هيلاري كلينتون وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأميركية في بداية الثورة، والتي دلت وبشكل جلي على تورط الإدارة الأميركية في تأسيس تنظيم داعش وبأدوات إيرانية، ولم تكن هذه التسريبات هي الدليل الوحيد على ارتباط تنظيمات الإسلام الجهادي بأجهزة المخابرات السورية والعراقية والإيرانية، بل كانت هناك أدلة كثيرة منها أيضا إطلاق سراح المئات من السجناء الجهاديين في بداية الثورة من سجن صيدنايا معقل صناعة الإرهاب الأسدي وسجن أبو غريب في العراق، وهذا يجعلنا على يقين بأن ما قامت به هذه التنظيمات جاء خدمة لمنع سقوط الأسد ونظامه وفرصة لإعادة إنتاجه من جديد وأعتقد إذا نجح هذا مرحلياً لن ينجح مستقبلا، لأن توغل الأسد وجيشه وأجهزة مخابراته في دماء السوريين وجرائمهم غير المسبوقة التي ارتكبها هؤلاء لن تمر وسيلقى المجرمون جزاءهم العادل آجلاً أم عاجلاً.