في كتابه "نهاية التاريخ" يستعير المفكر الأميركي "فوكوياما" من الفيلسوف الألماني "هيغل" نموذج العلاقة الديالكتيكية بين "السيد والعبد"؛ وسعي كل منهما إلى طلب الاعتراف بإرادته، فينتج نفي التناقضات سيرورة اجتماعيّة تصل غايتها في الدولة الديمقراطيّة الليبراليّة.
وأمّا الطاقة الباعثة على نفي التناقضات فبحسب أفلاطون تُسمّى "الثيموس" ومركزها في الصدر، وفوكوياما يعتقد أنّ الثيموس ذو توجّهين:
ميجالوثيميا: حين يبالغ السيّد في طلب تقدير ذاته.
إيسوثيميا: حين يسعى العبد إلى نيل المساواة.
فالليبراليّة فتحت الأفق أمام ثيموس "الميجالوثيميا" ليحقق طموحه عبر التجارة مثلا -لا الحرب كما كان يفعل في طور سابق- في حين حقّقت "الديمقراطيّة" لثيموس "الإيسوثيميا" المساواة التي ينشدها.
ولعلّ شيئا من هذا الكلام يبدو واقعيّا في الدول الديمقراطية الليبراليّة فسواء أكان المواطن مسؤولا أو غير مسؤول، غنيّا أو فقيرا، من هذه البلدة أو الطائفة أو تلك الديانة فهو يمتلك حزمة "حقوق مدنيّة" يكفلها العقد الاجتماعي وتؤكّدها قوانين الدولة فالجميع متساوون أمام القانون.
تتيح الليبراليّة إذن للطموحين التنافس داخليّا عبر الرياضة والاقتصاد والفنون بل حتى السياسة شريطة ألّا يودي تنافسهم بركائز المساواة في العقد الاجتماعي: وهذا ما يقدّره حزب العدالة والتنمية الذي كرّر على لسان أكثر من مسؤول -أحدهم أردوغان ذاته في خطاب النصر- بأنّ النصر في الانتخابات الأخيرة إنما هو نصر لجميع فئات الشعب وأطيافه السياسيّة.
المنتصر ديمقراطيّا في الدولة الليبراليّة لن يكون قطباً يمثّل مصالح ناخبيه فحسب بل مصالح جميع المواطنين الذين يكفل لهم العقد الاجتماعي تلك الحقوق الثابتة
وأكّد الرئيس المنتصر أنّ الشرعيّة تنطلق من إرادة المواطن التركي ولابدّ أن تعود على المواطن بالنفع بتحقيق مزيد من الرفاهيّة والحصول على خدمات أفضل. وذكر أردوغان إنجازات اقتصاديّة حقّقها تياره السياسي "العدالة والتنمية" في البلديات والوزارات ومجلس النواب ورئاسة الجمهوريّة؛ لكنّه يعود كلّ مرّة ليؤكّد أنها إنجازات حقّقتها إرادة المواطن التركي بواسطة العدالة والتنمية.
ومن جهة أخرى فإنّ ضمان المساواة بين المواطنين تكفله الديمقراطيّة التي أشاد بها أردوغان ومسؤولو حزبه باستمرار؛ والتي من خلالها حقّقوا النصر الذي رغم كونه تغلّب إرادة ثيموس طموح على إرادة ثيموس طموح آخر؛ لكن المنتصر ديمقراطيّا في الدولة الليبراليّة لن يكون قطباً يمثّل مصالح ناخبيه فحسب بل مصالح جميع المواطنين الذين يكفل لهم العقد الاجتماعي تلك الحقوق الثابتة، وما الانتخابات وتنافس الثيموسات إلّا لينال المنتصر بها تفويضاً من السيّد المواطن بإدارة مصالحه.
ومما قاله أردوغان: لسنا الفائزين بل تركيا – شعبنا بكل أطيافه الفائز.
لكن إذا كانت الديمقراطيّة بمفردها توازن في المجتمع الواحد بين إرادة ثيموس طموح يطلب التّفوّق وإرادة ثيموس متواضع يطلب المساواة؛ فمن يضمن مبالغة ثيموس طموح يسعى إلى طلب الاعتراف بتفوّقه خارج حدود العقد الاجتماعي والجغرافيا الوطنيّة؟
مثلا: من يضبط مبالغة نزوع المواطن التركي نحو إظهار تفوّقه على لاجئ سوري ليس ناخبا بطبيعة الحال؟!
يمكن ضبط ثيموس يسعى إلى التّفوّق "طلب السلطة" عبر الديمقراطية وإدارة مجالات التنافس داخل أعضاء العقد الاجتماعي الواحد؛ لكن من يضمن ألّا يمارس الأكثر قوّة هيمنته على الضعفاء كالأقليّات والنساء بل حتى الوافد الجديد على هذا العقد؟!
ربّما ثمّة أخلاق ليبرالية مؤثّرة تتعلق بالتسامح وتسبق القانون فتؤسس لمساواة تمتد من حقوق الإنسان مرورا بالحقوق المدنيّة وصولا إلى حقوق المواطنة فهل هذا تصنعه العلاقات الاقتصاديّة بمفردها؟!
بالنسبة إلى اللاجئ السوري في تركيا: فإنّ قانون الحماية المؤقّتة عام 2013 حافظ على موضوع "التحديد الجغرافي" الذي لا يشملهم كلاجئين. ورغم أنّ القانون منح التدفقات الجماعية من الجنوب صفة قانونية إلّا أنّ القانون ينص على "مراعاة التوازن في ما بين مسألة حقوق الإنسان مع الأمن والسلامة العامة" وربط ذلك بتعليمات تصدر عن رئاسة الجمهوريّة؛ أي أنّ القانون لم يأتِ استجابة لثقافة شعبيّة ولم يتأسس عليها؛ وظلّت مسألة "الأمن والسّلامة العامة" قابلة لتفسيرات مفاجئة حتى للمجنّسين من السوريين فكيف بمن لم يُجنّس؟!
ثمّة تناقض آخر: إذ لا تكبت الليبراليّة -بحسب فوكوياما- نشاط الثيموس الطموح بل قد تدفع السياسات الداخليّة ثيموسا طموحا إلى ممارسة نشاطه خارج حدود العقد الاجتماعي الوطني وجغرافيا الوطن كنشاط عسكري بل حتى اقتصادي وسياسي مثل: تنافس شركات اقتصاد قوي كالاقتصاد التركي مع اقتصاد حرب في الشمال السوري مثلا، أو فرض مسار حل سياسي قد يخدم الأمن القومي التركي بكل تأكيد لكن من غير المؤكد أنه يخدم السوريين، بل حتى دعم حكومة غير منتخبة في الشّمال السوري ورئيسها مواطن تركي مارس حقّه الانتخابي مؤخّرا!
لاشكّ أنّ الرئيس التركي "أردوغان" رئيس منتخب ديمقراطيّا وحين يحتفل الأتراك بانتصار ثيموسهم الطموح فإنّهم لا يرفعون صورة الرئيس؛ كما لا يسمّونه سلطاناً، أو "ديكتاتورا" كما زعم كليتشدار أوغلو، وأردوغان يقول صراحة في خطاب النّصر: "لن نكون أسياداً بل خدماً لمواطنينا" أمّا الأتراك فغالبا ما عبّروا عن مشاعرهم برفع علم بلادهم؛ رمز "ثيموس الطموح والمساواة" معا؛ فلماذا يقدّم الإعلام الناطق باللغة العربيّة أردوغان للجمهور العربي والسّوري خاصّة بوصفه سلطانا؟!
الدول ليست جمعيّات خيرية بل مؤسّسات منتخبة لتحقيق مزيد من "العدالة والتنمية" والرئيس التركي طالما نسب الفضل بتحقيق الإنجازات في: التعليم والصحة والسياحة والصناعة والصناعات العسكريّة والزراعة والموصلات والرياضة إلى إرادة المواطن التركي
لوعي تناقض أو توافق مصالحك مع مصالح الآخرين عليك أن تكون موجودا على أيّة حال، فأين إرادة السوريين؛ أين ثيموس طلب المساواة على أقل تقدير؛ خاصة أنّ خطاب "المهاجرين والأنصار" الذي تبناه العدالة والتنمية خلال السنوات الماضية يدعم موضوع المساواة!
لا شك أنّ الدول ليست جمعيّات خيرية بل مؤسّسات منتخبة لتحقيق مزيد من "العدالة والتنمية" والرئيس التركي طالما نسب الفضل بتحقيق الإنجازات في: التعليم والصحة والسياحة والصناعة والصناعات العسكريّة والزراعة والموصلات والرياضة إلى إرادة المواطن التركي، وبحسب خطاب النصر فإنّ من بين تلك الإنجازات اكتشافات البترول في "الجنوب التركي" إلّا أنّ "الإرهاب" منع وصول المستكشفين والحكومة، ومن ثمّ حال بين المواطن التركي وبين البترول/ الرّفاهية، وأنّ خصوم أردوغان السياسيين أرادوا مشاركة "الإرهابيين" في البترول -ولعلّ أردوغان في حديثه هنا أراد استجماع طاقة الثيموس لتكوين ثيموس جماعي-، لكن حين يتحدث الرئيس التركي عن مصالح أمنه، وعن "بترول القامشلي"، و"تأمين العودة الطوعيّة للاجئين" كمطلب أمني واقتصادي وسياسي فالسؤال السوري البديهي هنا:
هل سنعود إلى بلادنا لنحقّق إرادتنا أم سنُعاد لنحقق الأمن القومي التركي!؟
على المرء أن يكون لاجئاً سوريّاً متواضعاً يتحسّس غيابه في خطاب ثيموس حقّق نصره الداخلي بانتخابات ديمقراطيّة وحافظ على العقد الاجتماعي الذي يضم أعراقاً وطوائف وأدياناً متنوعة، ونحن لا نزال سوريين نتشارك شيئاً من هويّاتنا مع بعض تلك الهويّات الدينية أو العرقية في البلد المضيف لكنّا لا نشاركهم في هويّتهم الوطنيّة وعقدهم الاجتماعي!
من جهة أخرى فالديمقراطية بمفردها يمكن أن توازن بين طموح الذئب ومصالح الحملان داخل حدود الجغرافيا والعقد الاجتماعي فتحقق نمواً يترافق عادة -في المجتمعات الليبراليّة القائمة على حريّة الفرد بالفعل- مع حساسيّة ديمقراطية اتجاه حقوق الفرد والإنسان، أمّا النمو الاقتصادي والعسكري بمفرده فقد يخلق "ثيموسا جمعيّا" ينغلق على هويّته الجمعيّة ليبالغ في تمجيدها، أو يطلب تمجيدها في حروب خارج الحدود كما زعم فوكوياما.
وثمّة سؤال أخير قد نتركه برسم فوكوياما ذاته ويشكّك في أن الليبراليّة التي سبقت ديالكتيك هيغل بقرون هي ذاتها ما بعد هيغل: فهل يصنع الديالكتيك بمفرده حريّة أم يسحق أخرى!
إذ كثر تعداد الشعوب المسحوقة التي كانت تريد الحريّة!