انتصار المقدسيين "المؤقت" على إجراءات الاحتلال الإسرائيلي، للمرة الثانية بعد إزالة كاميرات المراقبة في العام 2017، وإزالة الحواجز المعدنية في رمضان 2021، تشكل ضربة موجعة لنظام الأسد وحلف الممانعة، الذي طالما تلحف باسم القدس وتمترس خلف شعاراتها، وقد يتساءل البعض عن جدوى علاقة انتصار أهل القدس في باب العمود بما يجري في سوريا، الجواب البسيط البديهي أن الاحتلال هو العدو الدائم والمفترض أن تكون ممارساته مقياسا لهذا العداء الذي تقيمه في صدورها شعوب المنطقة، لا أن تحل محلها ممارسات أخرى مارسها نظام الأسد على الشعب السوري، بعدما دلت آلاف الوقائع على ما قدمته تلك الممارسات من "تفوق أخلاقي" للمؤسسة الصهيونية المزايدة بشكل سخيف على وحشية الأسد.
بسالة وصمود المقدسيين، وتراجع الاحتلال عن بعض إجراءات العدوان على المدينة وأهلها، تعيدنا من جديد لاستحضار المقارنة بينه وبين نظام الأسد من باب حفظ حصة العداء الكبرى للعدو، فنرى من دمر ثلاثة أرباع سوريا بمدنها وأريافها وحواضرها، مع ملايين الضحايا والمهجرين والمشردين، فضلاً عن بقية المآسي الاقتصادية والشروخ الاجتماعية ، كلها لم تستطع إرضاخ الأسد ونظامه لأبسط المطالب التي نادى بها السوريين، بسالة المقدسيين لا تقل عن شجاعة السوريين في العزيمة والتضحية أبداً، وبقدر ما تجعلنا نراقب الرضوخ الفعلي للعدو لإرادة المقدسيين، ينظر السوريون بأسى كيف تم قهر إرادتهم بدبابات وطائرات وبراميل متفجرة وعصابات مستوردة ونفاق دولي وعربي، من أجل دفن هتاف نادى بالحرية والكرامة والمواطنة.
عشرة أعوام تحضر في يومياتها وتفاصيلها المقارنة المأساوية والمخزية بين عدوين للسوريين الطاغية ومحتل الأرض ومستعمرها
في كل مرة نورد فيها سلوك المستعمر الصهيوني مع أصحاب الأرض، ومقارنته مع سلوك طاغية السوريين ، يميل الميزان بكفته المثقلة بكل وخم التاريخ لصالح عدو السوريين في دمشق، عشرة أعوام تحضر في يومياتها وتفاصيلها المقارنة المأساوية والمخزية بين عدوين للسوريين الطاغية ومحتل الأرض ومستعمرها، الأول بات متراسا ودريئة "أخلاقية" للعدو الذي يسجل في كل جولة صراع نفاق المزايدة والفرح الغامر بسلوك الأسد ولسان حاله يقول: نحن نسهل الوصول لدور العبادة ونمنح المعتقلين تصاريح الزيارة" بينما على الجانب الآخر استهزاء وتحقير وتدمير لكل شيء؛ الأسد بات قبلتنا وقبان الميزان لسلوكنا والمفضل لصندوقنا الانتخابي هناك.
فرحة أهل القدس بتراجع الاحتلال أمام هبتهم، عبر عنها المقدسيون باستحضار أهازيج الثورة السورية وأغنياتها، وبرفع علمها المرفرف فوق قبة الصخرة، الساروت والقاشوش، كانا حاضرين في حناجر الفلسطينيين، وأهزوجة "جنة جنة تسلم يا وطنا" التي كانت ترعب أجهزة نظام الأسد وتجعله يفتك بالمغنين بمجازر حملت أسماء قرى وأحياء سورية، استحضرها المقدسيون تعبيراً عن انتصار الإرادة والشغف بالحرية، سعادة الانتصار على المحتل والطاغية بداية ذروة السعادة عند الإنسان، وهو ما رسمته شفاه السوريين وقلوبهم لحظة الأخبار الآتية من القدس، لكنها ستبقى غصات في القلب لمن يتبجح بنصر القدس من الشام وبيروت أو القاهرة وعمان وطهران، ويهلل “لانتصار” الأسد و يعشق عصابته.
الشام باقية في القدس، كما الأخيرة باقية في وجدان الشارع السوري والعربي، وكواشف القدس والشام ستبقى مضيئة على عار من اتخذ القدس اسما وسلاحاً وفيلقا وحزبا وتقية سياسية ودينية لممارسة الجرائم والمجازر لقتل حرية الإنسان، لن تفرح القدس إلا قليلاً بإزالة كاميرات مراقبة لأهلها وحواجز معدنية من أمام أبوابها وأدراجها، والشام حزينة، لن يكتمل فرح القدس دون هزيمة غطرسة الأسد الطاغية وكسر شوكة المستعمر الصهيوني، معادلة الفرح هذه حلها السوريون وأهل البلاد المستعمرون في فلسطين منذ زمن بعيد، والفرح في القدس والشام غير المفاهيم السالفة عن معنى الحرية والشعور بها، وعندما يتمايل المقدسيون على لحن "جنة جنة تسلم ياوطنا وتحية للشعب السوري العظيم" قبل انهمار البراميل والصواريخ فتلك مشاهد ومسامع مرعبة ستبقى تحاصر قلاع الطغاة والمحتلين.
لم يكن بمقدوره القبض على أغاني الحرية وأناشيد القاشوش والساروت في القدس ولن يكون بمقدوره نزع معادلة الحرية والكرامة التي عَبرت من الشام للقدس
أخيرا، من جنّد كل قوته واستعار عضلات محتلين كثر لقمع الشعب السوري، لم يكن بمقدوره القبض على أغاني الحرية وأناشيد القاشوش والساروت في القدس ولن يكون بمقدوره نزع معادلة الحرية والكرامة التي عَبرت من الشام للقدس، وأقامت في لياليها رغم البراميل المتفجرة ومئات المجازر، وصلف المستعمر الصهيوني، ستبقى الشام في القدس وكلمة السر في العبور نحو الحرية لن تبقى في الصدور.
لهذا كله يشترك الشارع الفلسطيني والسوري، مع شوارع عربية، في إعادة الروح لمفهوم الثورة، وهو يدفع نظام الأسد ومحوره الممانع مع المستعمر الصهيوني نحو مأزق لا خروج منه، إلا بالرضوخ لمطالب الشارع، إذ لم تستطع حيادية المنخرطين في مقتلة السوريين أن تمنع تسلل جماليتهم في الثورة، ولا تجاهل فنّهم ولا سخريتهم، من أجل ذلك يظهر الساروت والقاشوش في القدس وسيظهران مجددا في شوارع عربية تكابد للتغلب على القهر، وتلك أصبحت مفاهيم سورية للثورة في ميادين تنتظر لحظتها الفارقة.