كما كتبت هنا في المقال الأخير، لم نكن أبداً بصدد صفقة تبادل أسرى بين بشار الأسد وإسرائيل وإنما تفاهم أو توافق روسي إسرائيلي تتصرف فيه روسيا مع إسرائيل بصفتها الحاكم بأمره في سوريا الطائفية المتجانسة وبإذعان كامل من قبل بشار الأسد وبقايا نظامه الخاضع للاحتلال، بل الاحتلالات في مناطق نفوذه الصورية مقابل بقائه في السلطة ولو صورياً.
للتذكير فإن التفاهم الأخير تضمن إعادة روسيا شابة إسرائيلية قيل إنها دخلت بالخطأ إلى الأراضي السورية مقابل إفراج إسرائيل عن أسير سوري وإسقاط تهم عن مواطنة سورية أخرى كانت تقوم بتنفيذ حكم لخدمة الجمهور لستة أشهر، وإبعادهم عن هضبة الجولان المحتلة إلى سوريا.
الأسيران رفضا الإبعاد عن أهلهم وذويهم وقراهم، ورغم أنهم من بيئة مؤيدة لنظام بشار الأسد إلا أنهم رفضوا ما وافق عليه النظام نفسه في موقف يحمل دلالات أهمها رفض العيش في المناطق المفترض أنها محررة تحت سيطرة النظام الاستبدادي، بينما منسوب الحرية ومستوى معيشة لدى الاحتلال - وحتى سجونه - أفضل بكثير مما هو لدى الأسد، إضافة إلى بقائهم صامدين على أرضهم وبين ذويهم.
أما التحديث الأهم الذي تم إدخاله على التفاهم الروسي الإسرائيلي وأدى لإخراجه إلى حيز النور بعد تعثر لساعات، فتمثل بإرسال أو للدقة تبرع وتمويل إسرائيل شحنة من لقاح سبوتنيك الروسي – ضد فيروس كوفيد 19 المسبب لجائحة كورونا – لصالح النظام من أجل تلقيح الأسد والطبقة السياسية الأمنية المحيطة به، مع تمويه ما عبر إفراج تل أبيب عن رعاة سوريين دخلوا بالخطأ إلى الأراضي المحتلة في هضبة الجولان، كما كان يحدث طول السنوات الماضية ويجري إرجاعهم في العادة عبر الأمم المتحدة دون اعتقال طويل أو مساومة أو حتى التفكير في إدخالهم بأي صفقة أو تفاهم ما.
كتبت مطولاً هنا في المقال الأخير أيضاً عن الحيثيات السياسية للتفاهم الروسي الإسرائيلي في سوريا الذي مثّل القاعدة للتفاهم الفرعي الأخير الخاص بإرجاع المواطنة الإسرائيلية مقابل تمويل شحنة لقاحات روسية لنظام الأسد، ولا بأس من التذكير بها تحديداً فيما يتعلق بقبول إسرائيل الواقع الذي فرضته روسيا في سوريا بما في ذلك بقاء النظام كونه لا يتعارض مع مصالحها أصلاً مقابل اعتراف روسيا بحق إسرائيل في الدفاع عن أمنها، كما يحلو لها تحديداً فيما يتعلق بمنع التموضع الإيراني الاستراتيجي لا المرحلي في سوريا الذي لا تمانعه تل أبيب، إضافة إلى اعتبار موسكو العلاقة معها بمثابة ممر للتقارب مع واشنطن وعواصم غربية أخرى، ومحاولة استغلال ذلك لتعويم نظام الأسد، ورفع العقوبات الدولية عنه.
في قصة الشابة الإسرائيلية كان هناك تأكيد لافت للإذاعة العبرية نقلاً عن مصدر أمني أنها لم تتعرض للتعذيب أو سوء المعاملة من قبل النظام
خلال الأسبوع الماضي نشرت الصحافة العبرية تفاصيل إضافية خاصة بقصة المواطنة الإسرائيلية حيث قيل إنها غريبة الأطوار وتجاوزت الحدود بغرض الفضول وحرية التنقل دون عوائق. وكانت حاولت فعل الشيء نفسه عبر الحدود مع غزة والأردن ولبنان، وجرى منعها من قبل جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية ما يطرح علامات استفهام حول كيفية نجاحها في عبور حدود تخضع طوال الوقت لاحتياطات وإجراءات أمنية استثنائية. وهل فكّر أحد ما خارج الصندوق لجهة غض النظر عن عبورها – مع الثقة في إرجاعها سالمة - من أجل إجراء اختبار حقيقي للواقع ومعايشة ميدانية للوضع في المنطقة الحدودية، واستخلاص العبر اللازمة من قبل جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية.
في قصة الشابة الإسرائيلية أيضاً كان هناك تأكيد لافت للإذاعة العبرية نقلاً عن مصدر أمني أنها لم تتعرض للتعذيب أو سوء المعاملة من قبل النظام السوري، وهذا غير مفاجئ أو مستغرب طبعاً كون التعذيب والقتل موجه ضد السوريين والفلسطينيين وبقية الشعوب العربية التي ارتكب النظام ضدها وما زال جرائم حرب موصوفة، كما هو الحال في لبنان مثلاً بمدنه وقراه ومخيماته الفلسطينية من طرابلس شمالاً إلى صيدا جنوباً.
غير أن قصة اللقاح الروسي المموّل إسرائيلياً لنظام الأسد تستحق بالتأكيد التوقف عندها والتمعن فيها والخروج بالاستنتاجات والعبر اللازمة والضرورية منها.
لا شك أن روسيا بحثت عن ثمن ما لحفظ ماء وجه الأسد وإدخاله إلى الصورة ولو شكلاً، وهي طلبت من إسرائيل بوادر حسن نية تحددها بنفسها فاقترحت هذه الأخيرة الإفراج عن الأسيرين وإبعادهما وأمام رفضهما لذلك رغم موافقة روسيا - ونظام الأسد - تم التوافق المشترك على تمويل اللقاحات الذي يحقق فوائد للأطراف كلها حيث استعادت إسرائيل مواطنتها بثمن بخس، بينما حققت روسيا فوائد اقتصادية وإعلامية ودعاية للقاح كورونا الخاص بها وسياسية طبعاً فيما يختص تقوية العلاقات مع إسرائيل، كذلك حقق نظام الأسد الذي يعاني على كل المستويات فائدة ما عبر الحصول على لقاحات مجانية حتى لو كان ذلك بتمويل إسرائيلي.
بدا لافتاً جداً كذلك الرقم المتواضع الذي دفعته تل أبيب لموسكو 1.2 مليون دولار - رغم عدد اللقاحات الكبير -60 ألف جرعة تقريباً - وذلك نظراً لانخفاض ثمن اللقاح بشكل عام، ما يطرح تساؤلاً منطقياً عن أسباب عدم تبرع روسيا نفسها للنظام، علماً أنها كانت تبرعت بـ5000 جرعة للسلطة الفلسطينية ولدول أخرى، أيضاً ما يؤكد حقيقة أنها لا تقيم وزناً كبيراً للنظام الخاضع تماماً لهيمنتها.
ومن جهة أخرى. فنحن بالتأكيد أمام تطبيع موصوف بين إسرائيل ونظام بشار الأسد حتى لو كان صحياً أو تلقيحياً للدقة، كون بشار والطبقة المحيطة به سيتلقون لقاحاً – روسياً - مموّلاً إسرائيلياً، وإذا لم يكن هذا التطبيع فما هو.
أما تداعيات التفاهم فلا تقل أهمية خاصة لدى الجانب الإسرائيلي، حيث ستلاحقه التفاصيل إلى غزة، كما قالت صحيفة هآرتس "الأحد21 شباط فبراير"، في أي صفقة تبادل محتملة مع حماس، وإضافة إلى الثمن المرتفع سيتم طرح ضرورة سماح إسرائيل بوصول اللقاحات إلى غزة من جهات مانحة ومتبرعة وحتى من السلطة الفلسطينية في رام الله، حيث لا يطلب أحد من تل أبيب التبرع رغم أنها تتحمل المسؤولية كقوة احتلال عن أحوال الفلسطينيين في الأراضي المحتلة بالضفة وغزة.
أسقط التفاهم الروسي الإسرائيلي مرة أخرى وهم الممانعة والمقاومة والسيادة عن نظام الأسد، مع تفريطه الموصوف بالسيادة الوطنية وحتى بحقوق المواطنين السوريين تحت الاحتلال
في التداعيات سعت إسرائيل مباشرة إلى تعميم التجربة وتحديداً الجانب التطبيعي منها، حيث قررت حكومتها تقديم لقاحات مجانية لعدة دول - 20 تقريباً - مقابل فوائد سياسية حسب تعبير رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تتعلق بإقامة علاقات دبلوماسية معها أو بنقل السفارات من تل أبيب إلى القدس، كما هو الحال في حالة هندوراس وجواتيمالا.
في الأخير وباختصار أسقط التفاهم الروسي الإسرائيلي مرة أخرى وهم الممانعة والمقاومة والسيادة عن نظام الأسد، مع تفريطه الموصوف بالسيادة الوطنية وحتى بحقوق المواطنين السوريين تحت الاحتلال. كما أكد من جهة أخرى أن روسيا ليست داعما جديا للعرب وقضاياهم كون تفاهماتها راسخة وقوية مع الاحتلال الإسرائيلي. أما علاقاتها مع فلسطين والعرب فتمر عبر تلك التفاهمات الراسخة، واعتبارها أي روسيا أمن ومصالح إسرائيل قاعدة لسياساتها العامة في المنطقة.