منذ أن تركت إدارة الرئيس الأميركي بارك أوباما آثارها السلبية على ملفات المنطقة نتيجة سياستها المرنة أكثر من اللازم تجاه الدول التي باتت تشكل الخطر الدائم على المنطقة وشعوبها وتهدِّد أمن وسلامة جيرانها، ومن ثم تقاعس الإدارة الأميركية في الدفاع عن حلفائها في الشرق الأوسط، بدأت تظهر ملامح تغيير خريطة التحالفات في المنطقة بسبب فشل السياسة الأميركية في هذا الإطار، وبناءً عليه راحت الدول الحليفة لأميركا تعيد حساباتها عندما تفكر بإقامة أي تحالف حقيقي على أسس المصالح المتبادلة والشراكة الحقيقية.
وبدأت مخاوف كثير من الدول تزداد حتى أصبحت هذه المخاوف حقيقة واقعة، إذ إن الدول التي كانت تنظر لأميركا كسيدة العالم عسكرياً واقتصادياً راحت ترى بأن أميركا لم تعد الجهة التي تراهن عليها في حماية حلفائها والدفاع عنها وفق منطق التحالف والشراكة والمصلحة المتبادلة، بل انطلقت من مصلحة أن أميركا وحدها دون أي اعتبار لمصالح الدول التي ارتبطت معها في تحالف استراتيحي قوي لعشرات السنين، وقدّمت خدمات كبيرة لأميركا من دون حساب مقابل الحفاظ على هذا التحالف، ويبدو أن نظرة أميركا بدأت تختلف ولم يعد لديها تحالفات استراتيجية أو شراكات حقيقية، وإنما بدأت تنظر إلى الدول على أن لها أدوار وظيفية فقط.
وصحيحٌ أنه في عهد الرئيس ترمب تعزّزت ثقة كثير من الدول بأميركا ومدى وفائها لعلاقاتها، ولكن في عهد الإدارة الجديدة التي بدأت بسلسلة من الخطوات أفقدت أميركا خلالها كثيرا من مصداقيتها لدى حكومات وشعوب المنطقة، ومن تلك الخطوات:
ـ إبان إسقاط الطائرة الروسية من قبل القوات الجوية التركية في عام 2015 وتوتر العلاقة بين الطرفين بشكل غير مسبوق، لم تتصرف أميركا حينذاك من موقع أن تركيا عضو في الناتو وأن أي اعتداء عليها هو اعتداءٌ على الحلف ما يستدعي الأمر الدفاع عن الحليف، إنما تركت تركيا وحدها في مواجهة روسيا، الأمر الذي أدركه الرئيس التركي مبكراً وحسم خياراته وتوصل إلى الاستنتاج بأن أميركا لم تعد ذلك الحليف الذي يوثق به.
ـ رفع الحوثيين عن قائمة الإرهاب الأميركية من دون أي مبرِّر، بل بالعكس فقد زادت مبررات وضعها على قائمة الإرهاب، وحيث تقوم هذه الجماعة بقصف المراكز المدنية خارج حدود اليمن، منها منشأة آرامكو النفطية والمطارات المدنية واستهدافها للعديد من المراكز المدنية للسعودية والإمارات، وعدم تقديم أميركا الدعم المطلوب للملكة العربية السعودية لإنهاء خطر الحوثيين.
الحرب الروسية على أوكرانيا كشفت الدور الأميركي الذي ورَّط قادة أوكرانيا بالتحدي لروسيا الأمر الذي سيتسبب بمقتل الآلاف من الأوكرانيين وتدمير بلادهم وتهجير الملايين والتضحية بمستقبل شعب ودمار بلد من أجل إضعاف خصم استراتيجي عسكرياً
ـ الانسحاب المفاجئ من أفغانستان وترك حلفائها تحت رحمة قوات طالبان، والكل شاهد الصور المرعبة لهروب الأفغانيين من خلال تعلقهم بعجلات الطائرات الأميركية.
ـ الحرب الروسية على أوكرانيا كشفت الدور الأميركي الذي ورَّط قادة أوكرانيا بالتحدي لروسيا الأمر الذي سيتسبب بمقتل الآلاف من الأوكرانيين وتدمير بلادهم وتهجير الملايين والتضحية بمستقبل شعب ودمار بلد من أجل إضعاف خصم استراتيجي عسكرياً، ألا وهو النظام الروسي، ولكن على حساب الشعب الأوكراني.
ـ تبدل مواقفها من الثورة السورية باستمرار، حيث تجاوز النظام السوري لكثير من الخطوط الحمر التي وضعتها الإدارات الأميركية المختلفة منذ بداية الثورة السورية ولم تقم أميركا بأي رد رادع على تجاوزات النظام أو تضع حداً له ولمجازره المتكررة، وكذلك الأمر عدم التزامها بتلك المواقف التي أطلقتها منذ بداية الثورة، بل ولم تفِ بأيٍّ من وعودها للسوريين.
ـ الاستفزازات المستمرة التي تقوم بها إيران والحشد الشعبي ضد إقليم كردستان وقصفها للعاصمة هولير عدة مرات استهدفت فيها مواقع أميركية أيضاً، وذلك دون أن تقوم أميركا بما يلزم حيال تلك الاستفزازات التي تخلق انطباعاً لدى الناس بأن ثمة ضوء أخضر أميركي غير مباشر لإيران فيما تقوم به.
ـ إمداد إيران للحوثيين بمختلف أنواع الأسلحة، منها صواريخ بالستية وطائرات من دون طيار، ممن تستخدمها الميليشيات الحوثية خارج حدود اليمن إضافةً إلى تهديد الملاحة البحرية.
لذا فإن كل هذه المعطيات جعلت كثيرا من شعوب وحكومات المنطقة تفقد الثقة بأميركا كحليف استراتيجي، وتبحث عن شركاء آخرين قادرين على الإيفاء بالتزاماتهم تجاه الشركاء.
وقد جاء الموقف السعودي والإماراتي بعدم الرد على مكالمة الرئيس الأميركي جو بايدن، وكذلك عدم استجابتهما لطلب أميركا في ضخ مزيد من النفط في الأسواق العالمية بغية الحفاظ على أسعار النفط، وكذلك الأمر الحوارات السعودية الصينية الجارية لبيع الصين قسم من النفط السعودي بالعملة الصينية، وحيث تعتبر الصين أكبر مستورد للنفط السعودي؛ كما يمكن إدراج دعوة الإمارات العربية المتحدة لرأس النظام السوري للقيام بزيارة الإمارات ضمن الرسائل السياسية الموجهة إلى أميركا أكثر من غيرها، ومفاده بأن ثمة خيارات أخرى أمام دول الخليج، وهي أنه إذا ما استمرت أميركا في تجاهل أمن تلك الدول وشراكتها والنظر إليها على أنها مجرد بقرة حلوب، فإن تلك الدول قد تغيِّر خريطة تحالفاتها، هذا إن لم تكن خياراتها قد وصلت إلى مرحلة اللاعودة إلى الحلف الأميركي.