يتجه عالمنا الحديث بكل ما فيه نحو الرقمية، إذ سوف يصل العالم إلى مرحلة يتخلى فيها عن كل الأساليب اليدوية أو الآلية في تسيير الحياة اليومية لصالح الروبوت والرقميات وعالم الميتافيرس، ولن يكون مدهشا في زمن قريب أن نشاهد عروضا مسرحية افتراضية ممثلوها عبارة عن روبوتات، (في تطور طبيعي لمسرح العرائس) مثلما حدث في السينما عبر أفلام الكرتون والأنيميشنز، وربما بدل استخدام أصوات البشر سوف يتم استخدام أصوات رقمية مصنعة.
وربما أيضا لن يكون مدهشا إن تابعنا أمسيات شعرية افتراضية لروبوتات أو مخلوقات رقمية أخرى، بعد أن تم فرض الاجتماعات والأمسيات والمشاركات البشرية المتنوعة عبر خاصية زوم أو ما يشبهها، ذلك أننا تعودنا خلال سنوات الكورونا على اعتبار الشاشات هي وسائل للتواصل بدلا من التواصل البشري رغم كل محاولات البشر لنبذ ذلك؛ وفي هذا المجال كان مذهلا ما أخبرتني به صديقة فنانة تشكيلية عن معرض للديجيتال آرت تشارك في التحضير له حاليا، وسوف يقام لأجله مزادٌ افتراضيٌ تباع فيه اللوحات الافتراضية ويتوقع أن تصل أسعار اللوحات إلى أرقام خرافية، وحين سألتها أين سيضع المقتني لوحته أو لوحاته الافتراضية أخبرتني عن شاشة مخصصة لهذا النوع يمكن أن يضعها المقتني على الحائط في منزله تعرض اللوحة أو اللوحات المرادة، تماما كما يعرض المقتنون لوحاتهم المرسومة بألوان الزيت أو الأكليرك على الخشب أو الكانفاس أو الورق المقوى وغيره.
البشر هم أنفسهم أساسا من يقدمون للبشرية كل هذه الاختراعات المهولة، وهم أنفسهم أيضا من يرفضونها ويحاربونها أو من يرحبون بها ويعتبرونها تطورا طبيعيا للبشرية
أعترف هنا أن خيالي غير قادر على استيعاب هذا العالم بعد، وأعترف أنني أفضل كل ما له علاقة بنقل مشاعر البشر عبر حواسّهم الحية لا الافتراضية، لكن عليّ الاعتراف أيضا أنني ربما، إن عشت طويلا، فقد أتغير، ذلك أنني منذ زمن استغنيت عن الورق والحبر في الكتابة، وعن ضغط الأصابع الثلاثة الأولى على القلم لصالح جهاز الكومبيوتر ولوحة المفاتيح أو أزرار الهاتف المحمول. من يدري ماذا سيحدث في هذا الاتجاه؟ ذلك أن قدرة البشر على التأقلم مع كل المتغيرات تكاد تكون مهولة، البشر هم أنفسهم أساسا من يقدمون للبشرية كل هذه الاختراعات المهولة، وهم أنفسهم أيضا من يرفضونها ويحاربونها أو من يرحبون بها ويعتبرونها تطورا طبيعيا للبشرية وسبقا في الحضارات الحديثة، رغم أن كل هذا العالم الافتراضي الذي قد يحدث ذات يوم هو عالم رأسمالي بالكامل، فالشركات التي تسيطر على عالم الميتافيرس هي شركات يملكها عدد محدد من رجال الأعمال والأثرياء المتحالفين مع النظام العالمي وعابري الهويات والقارات والانتماءات، لكنهم متحدون في عالم التنافس والسيطرة وصناعة الحروب المختلفة وربما حتى الفيروسات القاتلة التي تساعد في التخلص ممن لا لزوم لهم في عالم اقتصاد السوق والميتافيرس، فلا هم منتجون ولا يتاح لهم أن يكونوا مستهلكين أيضا، ويمكن استبدال قواهم العاملة بآلات ذات إنتاجية وكفاءة أعلى وكلفة أقل.
اللافت أيضا أن دول العالم الغربي والمتقدم بدأت تتنافس في تغيير آلية التعليم وطرق التدريس بما يتناسب مع التطور التقني الحاصل ويجعل من الأجيال الجديدة أجيالا قابلة للتأقلم مع متغيرات العالم، وجاهزة للمشاركة فيه عبر تأهيلها تقنيا ومعرفيا لذلك فلا تشعر بغربة أو افتراق عن التقدم الحضاري التقني للبشرية، وبعد أن أصبح الحصول على المعلومة بالغ السهولة وفي متناول الجميع وباتت المعرفة تتطلب إلماما طفيفا باستخدام الحاسوب وتقنياته البسيطة تغيّر مفهوم الثقافة والمعرفة مثلما تغيّر كل شي، ما لزمه تغييرا حتى في وسائل التعليم والتحصيل العلمي، إذ صار الاتجاه حاليا نحو الدراسات التطبيقية لا النظرية، تلك الدراسات التي تساعد صاحبها على دخول سوق العمل الذي يتطلب مؤهلات عالية في التقنيات وإلماما كاملا باللغة الإنكليزية التي أصبحت اللغة العالمية الأولى حاليا، وطبعا كلما زادت قدرة الفرد على تعلم لغات أخرى زادت فرصته في دخول سوق العمل العالمي الذي صار متشابكا ومتداخلا وعابرا للهوية اللغوية.
تقول لي ابنتي التي درست في قسم النقد في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق: "كل ما درسناه بات متاحا حاليا بكامله على محرك البحث غوغل أو على ويكيبيديا من دون الحاجة لنيل شهادة فيه" ابنتي التي تعيش في أوروبا حاليا نالت شهادة جامعية أخرى باختصاص مغاير لاختصاصها السوري، فقد حصلت على ماستر في التسويق الإلكتروني أو ما يسمى ماركيتينغ ديجتال، بعد أن أتقنت الإنكليزية والفرنسية إضافة إلى لغتها العربية وهي تعمل في اختصاصها الجديد حاليا، ليست ابنتي استثناء حتما، إذ إن كثيرا من الشابات والشباب السوريين استطاعوا تمكين أنفسهم في سوق العمل العابر للأوطان عبر إتقان تقنيات الاختصاصات الحديثة واعتنائهم بتعلم اللغات اللازمة، ما جعل معظمهم يدخل سوق العمل بجدارة ويندمج في المجتمع الجديد الذي يعيش فيه، وهذه واحدة من الإيجابيات التي يمكن التعويل عليها بعد ٢٠١١، إضافة إلى البيئة الصحية التي سيربّى وينشأ ويعيش فيها الأطفال السوريون في المجتمعات المتقدمة.
ما زلنا نتحدث عن محو أمية، عن ملايين من البشر لا يعرفون القراءة والكتابة، وملايين من الأطفال سيلاقون نفس المصير، بسبب السياسات الفاشلة لمعظم الأنظمة العربية
طبعا أشياء كهذه لا يمكن الحديث عنها في المجتمعات العربية أو أنظمتها التعليمية، ذلك أننا هنا ما زلنا نتحدث عن محو أمية، عن ملايين من البشر لا يعرفون القراءة والكتابة، وملايين من الأطفال سيلاقون نفس المصير، بسبب السياسات الفاشلة لمعظم الأنظمة العربية والتي أفرزت الفقر والجهل وانعدام التنمية، مثلما أفرزت حروبا نتج عنها من ضمن ما نتج أطفال الشوارع والمخيمات وتجارة وعمالة الأطفال بكل ما يتعلق بها من كوارث، أما النظم التعليمية في المدارس والجامعات فهي تتناسب تماما مع النظم السياسية الفاشلة والتي تنتج مجموعات كبيرة من العاطلين عن العمل في بلاد فرصُ العمل فيها أساسا لا تتناسب مع عدد سكانها، فما فائدة الأعداد الهائلة من خريجي كليات الآداب بكل فروعها، في وقت باتت فيه معرفة أي معلومة وتعلم أي لغة يلزمه فقط حاسوب أو هاتف ذكي وشبكة إنترنت، وما معنى وجود مئات آلاف الأطباء والمحامين في بلاد منظومتها الصحية والقضائية يأكلها الفساد، أما الحديث عن المنظومة التربوية والتعليمية فهو حديث لا ينتهي، ويكفي النظر إلى حال مجتمعاتنا لمعرفة مدى الدمار الذي لحق بهذه المنظومة.