تطرق وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مداخلة طويلة ألقاها يوم 12/2022/ 7 في منتدى "قراءات بريماكوف" الفكرية السياسية السنوية إلى العلاقة بين تركيا وروسيا وتعاونهما مع المعارضة المعتدلة التي تقبل الحوار مع النظام الأسدي، وفهمها البعض على أنها اتفاق جديد حول سوريا. لكن الحقيقة غير ذلك.
جاءت كلمة لافروف في المنتدى السياسي الفكري الذي يحمل اسم الشخصية الحكومية البارزة ووزير الخارجية الروسي الأسبق يفغيني بريماكوف. وعادة يلقي الرئيس بوتين وكبار قادة البلاد كلمات في المنتدى ليؤكدوا على أهمية المنتدى وعلى الأفكار الاستراتيجية الصائبة -من وجهة نظرهم، للسيد بريماكوف وخاصة في الظروف الصعبة التي مرت فيها روسيا في نهاية التسعينيات عندما كان وزيرا للخارجية الروسية في عهد الرئيس بوريس يلتسين- المنبطح كليا أمام الغرب، حيث دعا بريماكوف حينها من أجل تعددية القطبية وعدم الانصياع للإرادة الأميركية والأطلسية التي تعاملت مع روسيا كدولة ضعيفة وفاشلة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991.
ولن نتوقف عند كلمة لافروف المطولة والتي شن فيها هجوما قويا على الغرب والناتو والسياسة الأميركية وقال إنهم خدعوا روسيا وتوسعوا شرقا الى الحدود الروسية في أوكرانيا، وكذلك محاولات الأميركان والغرب عموما فرض سياستهم وقيمهم على الدول الأخرى ومنها روسيا، وأكد لافروف أن كل ما يجري من قبل الغرب ضد روسيا هو تطبيق لسياسة بريجينسكي مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد الرئيس كارتر (1977-1981) الذي قال "روسيا مع أوكرانيا- إمبراطورية، ولكن روسيا بدون أوكرانيا ليست دولة عظمى". ويشير لافروف إلى أن الصراع بين روسيا والغرب في مجال الطاقة بدأ ليس بعد أحداث أوكرانيا 2014، بل في عام 2009 عندما اتخذت الدول الغربية حزمة الطاقة الثالثة والتي تقيد النشاط الروسي في بيع الطاقة للدول الأوروبية.
ويتحدث لافروف بصراحة عن تغير في توجهات السياسة الخارجية للدولة الروسية من الغرب الأوروبي إلى الشرق الآسيوي وذلك لأن الغرب- كما يقول لافروف- نفسه لا يريد التعاون مع روسيا. ولذلك لم يكن مصادفة أن يقول لافروف بأن روسيا تدعم انضمام البرازيل والهند لمجلس الأمن الدولي (وهما من منظمة بريكس) لكنها لا تدعم انضمام ألمانيا واليابان لسياساتهما التابعة للولايات المتحدة والمنحازة ضد روسيا. ويذكّر لافروف بكلمات أول أمين عام لحلف الناتو اللورد هاستينغز إسماي وهو جنرال شارك في الحرب العالمية الثانية، عندما قال بأنه "يجب إبعاد الروس عن أوروبا، وإبقاء الأميركان في أوروبا، ووضع الألمان تحت الرقابة لكي لا يتسلحوا".
وفي هذا الإطار جاء تصريح رئيس المنتدى ومدير معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية الأكاديمي ألكسندر دينكين بأن مقولة التعاون بين الشرق والغرب تتغير لتصبح التعاون بين الشمال والجنوب. وأضاف دينكين بأن تركيا تلعب دورا محوريا مستقلا في فرض نظام عالمي متعدد الاقطاب وهي دولة غربية وجزء من الناتو، وفي حال لم ينتصر الرئيس التركي أردوغان في انتخابات عام 2023، فإن تركيا ستصبح تابعة كلياً للغرب وسيتأثر النظام العالمي برمته بهذا الأمر. أي سينعكس الأمر سلبا على روسيا.
تصريحات لافروف حول سوريا:
بدأ الحديث عن مستقبل الوضع في سوريا بالقول هذا ليس سؤالا يطرح وإنما أمنية، واعترف لافروف بأن سوريا تحولت إلى ضحية للصراعات الجيوسياسية. وشن هجوما على الربيع العربي المدعوم من الغرب برأيه.
وقال إن في سوريا قوات مسلحة لدول أخرى منها من دعته حكومة الأسد ومنها ما هو موجود بشكل غير شرعي.
وأشار إلى أنه انطلاقا من تاريخ العلاقات بين تركيا وسوريا (النظام السوري) والتأثير الإيراني في سوريا وقرار الجامعة العربية بطرد النظام منها عام 2011، فإننا على قناعة بأن القوى المؤثرة على الأرض يجب أن تتحد وتتحدث مع "الرئيس بشار الأسد" وحكومته. وهكذا نشأت ثلاثية أستانا (روسيا – تركيا - إيران). وبالرغم من علاقة النظام السوري بالوجود التركي في شمالي سوريا فإن هناك ضرورة للحوار. وقد حققت - برأي لافروف – منصة أستانا والاتفاقيات الروسية التركية بموافقة النظام السوري تقدما ملحوظا في الساحة السورية (ويقصد على ما يبدو قبل كل شيء اتفاقيات خفض التصعيد التي نفذت بسرعة وخدمت نظام الأسد وكذلك وقف إطلاق النار).
وتابع لافروف بأنه: لدينا مع تركيا اتفاقيات ملموسة حول خفض التصعيد في منطقة إدلب، بين الرئيسين بوتين وأردوغان (2019)، والتي اقتضت الفصل بين المعارضة المعتدلة التي تقبل الحوار مع حكومة الأسد وبين هيئة تحرير الشام الإرهابية وأتباعها. ومن المعروف أن موسكو نجحت بمساعدة أنقرة في إقناع ممثلين عن الفصائل المسلحة للمشاركة في منصة أستانا للحوار مع ممثلي النظام السوري في نهاية 2016 مع سقوط حلب، وفي بداية عام 2017 مع انطلاق مفاوضات أستانا.
ومر لافروف على تفاصيل تتعلق بالخط الدولي M-4 وبالدوريات المشتركة، ولكن لم تنفذ كل هذه الاتفاقيات. ويقول إن شركاء روسيا الأتراك يعترفون بذلك. وقال لافروف إن الأتراك يتذكرون من الاتفاقيات أكثر شيء النقاط المتعلقة بوجود ونشاط قوات قسد الكردية في شمالي وشمال شرقي سوريا، والتي تعتبرها تركيا منظمات إرهابية. وهذه القوات تحظى برعاية أميركية موجودة بشكل غير شرعي في شرقي الفرات. واعتبر لافروف أن القوى الإرهابية تعمل بكل أريحية في مناطق سيطرة القوات الأميركية.
وتحدث لافروف عن ضرورة الحوار بين النظام السوري وقوات قسد التي عليها الابتعاد عن أي تصريحات انفصالية وأن يعيشوا في دولة واحدة كما عاشوا سابقا عربا وكردا وغيرهم. ونبه القوات الكردية من أن الأميركان ليسوا شركاء موثوقين وسيخدعونهم كما تخلوا عن الرئيس حسني مبارك والحكومة الأفغانية.
وأكد لافروف بأن روسيا ستعمل بكل قوة لعدم المساس بوحدة الأراضي السورية، وأن هذا الموقف هو موقف منصة أستانا. وقال إننا نؤيد اتفاقية أضنة بين دمشق وأنقرة (الموقعة عام 1998) والتي تشكل أساسا للحوار بين البلدين مراعاة للمخاوف الأمنية التركية التي اعترفت بها القيادة السورية من أيام حافظ الأسد.
وحول اللجنة الدستورية اعتبر لافروف أن نظام الأسد اتخذ مرسوما بالعفو عن معتقلين (واعتبر لافروف ذلك خطوة إيجابية من النظام علما أن الجميع يعرفون بما فيها روسيا بأن النظام لديه مئات الآلاف من المعتقلين ويطلق سراح العشرات وأغلبهم من مرتكبي الجرائم وليس من المعارضين السياسيين أو الناشطين المدنيين) ويقول لافروف لماذا لا تتخذ المعارضة خطوة مقابل خطوة النظام تطبيقا لمبدأ بيدرسن القاضي بـ"الحل خطوة بخطوة".
وحول توتر العلاقات بين روسيا والغرب في الشرق الأوسط قال لافروف: الغيوم دائما تغطي سماء العلاقات بين روسيا والغرب في منطقة الشرق الأوسط. واعتبر أن الربيع العربي أكبر قنبلة زرعها الغرب في المنطقة بحجة محاربة الأنظمة الديكتاتورية أو الشمولية مثل نظام صدام حسين ونظام القذافي. ولكن لافروف اعترف بأن تلك الأنظمة كانت تضيق على حقوق الإنسان ولكنها ممارسات فردية ولم يقتل خلالها مئات الآلاف من المدنيين كما حصل في المغامرات "العدوانية" (يقصد في بلاد الربيع العربي) وكما حصل في أفغانستان. وتحدث عن الصراعات في المنطقة وقال: ما زال السنة والشيعة لم يتغلبوا على تناقضاتهم.
وأكد لافروف بأن روسيا دائماً مستعدة للعمل مع الغرب في الشرق الأوسط. واتهم الغرب بأنه هو من جمد عمل الرباعي الشرق أوسطي لحل القضية الفلسطينية على مبدأ الدولتين. واعتبر أن "اتفاقيات إبراهيم" الأخيرة بين إسرائيل وبعض الدول العربية قلبت مبادرة السلام العربية التي قدمتها المملكة العربية السعودية عام 2003 (في قمة بيروت) رأسا على عقب.
محادثات روسية تركية حول سوريا
قام نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين على رأس وفد بزيارة أنقرة يومي 8 و 9 ديسمبر/كانون الأول لإجراء مباحثات رسمية حول العلاقات الروسية التركية وبشكل خاص حول العملية العسكرية التركية المرتقبة في شمالي سوريا.
ومن المعروف أن روسيا تعترف بالمخاوف الأمنية التركية وهي حريصة جدا على العلاقات الثنائية بين البلدين وخاصة على ضوء العمليات العسكرية الروسية المتعثرة في أوكرانيا والعقوبات الغربية الواسعة ضد روسيا والتي وصلت أخيرا إلى وضع سقف لسعر النفط الروسي بحدود 60 دولاراً، والذي سيحرم روسيا من مليارات الدولارات كعائدات للنفط. ولطالما أعلن الرئيس بوتين بأن تركيا ستصبح أهم ممر للغاز الروسي إلى أوروبا الجنوبية وكذلك لاستيراد وتصدير كل ما تحتاجه روسيا مع الغرب. وكلنا يعرف الدور التركي الفاعل في ملفات إقليمية عدة إما بالتفاهم مع الروس أو بمجابهة معهم. ونجحت تركيا في توقيع صفقة تصدير الحبوب الأوكرانية برعاية منظمة الأمم المتحدة.
وبالرغم من أن روسيا ضمنا لا تؤيد العملية العسكرية التركية، لكنها تتعامل مع الأمر بدبلوماسية عالية، حيث يصرح المسؤولون في موسكو بأنهم نصحوا شركاءهم الأتراك بالتصرف بعقلانية وعدم التدخل العسكري منعا للحفاظ على هدوء الوضع وعدم التصعيد.
ولذلك جاءت مقترحات موسكو من باب تجنب الحرب وبالوقت نفسه استبدال قوات قسد الكردية بقوات إما من الشرطة العسكرية الروسية (أو بقيادة أحمد العودة كما روج أخيراً) أو قوات الأمن الداخلي الكردية أو قوات من النظام، مع انسحاب قوات قسد لمسافة 30 كلم مع كامل أسلحتها ومعداتها الثقيلة. وبالطبع تهدف السياسة الروسية إلى توسيع سيطرة نظام الأسد والإبقاء على قوات قسد على الأرض (القريبة من النظام في حقيقة الأمر) كورقة للضغط على تركيا.
أما الموقف الأميركي الذي خلق المشكلة بدعمه لقسد من جهة ورعاها، وبالوقت نفسه يعترف بمخاوف تركيا الأمنية ولا يريد أن تقوم تركيا بأي عمل عسكري شمالي سوريا. وذلك يدل على أن السياسة الأميركية هي عامل أساسي في استمرار إدارة الأزمة السورية وعدم حلها، وأصبح الهم الرئيسي لتركيا حل مشكلة الميليشيات الكردية الانفصالية. أما روسيا فالمهم بالنسبة لها أن يتحقق هدوء وانفراج في الوضع السياسي السوري لكي تقنع العالم بأن الوضع مستقر بقيادة الأسد، ومن الممكن البدء بإعادة البناء الاقتصادي بعد الحصول على المليارات من بعض الدول في الخليج وأوروبا. وهذا يبدو مستبعدا حاليا وخاصة بعد أحداث أوكرانيا.
باختصار لا أحد يفكر جديا بمساعدة السوريين للخروج من الكارثة التي أوصلهم إياها نظام الأسد مدعوما من حلفائه في طهران وموسكو، فهو لم يكتف بتدمير سوريا وتهجير أهلها وقتل واعتقال الملايين، بل حولها إلى أكبر مصنع للمخدرات من نوع حبوب الكبتاغون وأصبح خطرا على أمن المنطقة بأكملها، وذلك في وقت وصلت فيه حالة الناس في جميع المناطق السورية إلى وضع يبحث فيه المواطن عن الخبز والماء والكهرباء والدواء، بينما يأتي البعض من دول وقوى ويقول اعترفوا بنظام الأسد لأنه الحل الوحيد، متناسين كل جرائمه الكبرى ضد الشعب السوري وضد الإنسانية.
لك الله أيها الشعب السوري الجريح وعلى الشرفاء أن يقلبوا الطاولة ويقدموا شيئا جديدا متميزا لإعادة الثورة إلى ألقها الأول لأن ظروف الثورة تنضج اليوم أكثر من أي وقت مضى، ولكن الشعب السوري ينتظر قوة وطنية حقيقية مستقلة تقود العمل الوطني السوري.