رغم أن نظام الجمهورية الإسلامية في إيران يواصل خسائره أمام ثورة الشعب الإيراني في الداخل، منذ أكثر من شهر، إلا أنه ما زال يحقق انتصارات كبيرة في الخارج، الخارج العربي على وجه التخصيص.
ورغم أن هذا النظام الذي لا يملك غير الحقد والبؤس واللصوصية والقتل ليصدره لغيره، ورغم ثورة شعبه ضده خلال الشهر الماضي، إلا أنه ما زال يحقق انتصارات تديم سطوته في دول جواره العربي، وآخرها كان كسبه جولة جديدة من السيطرة التامة على العراق، عبر فرضه لأزلامه وميليشياته على السلطة، لأربع سنوات جديدة، رغم خسارتهم المدوية في انتخابات تشرين العام الماضي.
عام كامل قضاه العراقيون في انتظار أن يروا حكومة وطنية وغير تابعة لإيران، وقضته إيران في إزاحة وتصفية الفائزين بمقاعد البرلمان، من أجل إعادة فرض أحزابها وميليشياتها، وها هي تنجح أخيراً في إعادتهم إلى السلطة. والسؤال هو: كيف يتأتى للنظام الإيراني أن يفرض على العراق النظام الذي يواليه ويناسبه وهو عاجز عن فرض نفسه على شعبه، الذي يثور عليه منذ أكثر من شهر ويطالبه بالرحيل ويتهمه بالدكتاتورية والاستبداد؟
انتخابات أكتوبر الماضي العراقية، جاءت كأحد مطالب انتفاضة الشباب العراقي، في أكتوبر من عام 2019 ضد التدخل الإيراني والفساد والبطالة والفقر وقلة الخدمات. تلك الانتفاضة التي أطاحت بحكومة عادل عبد المهدي، وهي واحدة من بين أفسد الحكومات وأكثرها موالاة لإيران وتفريطاً بالسيادة وثروات العراق، وعلى أن تجري انتخابات نزيهة تأتي بحكومة وطنية وغير موالية لإيران. ولكن ثمة عام كامل بين إجراء تلك الانتخابات وتشكيل الحكومة البديلة. عام قضته إيران، بالتدخل المباشر وعبر الأحزاب والميليشيات الموالية لها، في إزاحة الفائزين وتمكين الأحزاب الخاسرة من تحقيق غالبية في البرلمان، وها هي أخيراً تنجح وتنفرد بقرار العراق من جديد وتنتخب رئيساً، لم يسمع العراقيون باسمه من قبل، ليكون قراره الأول، وبعد نصف ساعة فقط من انتخابه، تكليف مرشح نوري المالكي، ذراع إيران الأطول والأكثر ولاء في العراق، بتشكيل الحكومة الجديدة.. وكأنك يا أبا زيد ما غزيت.. وكأن الشباب العراقي لم ينتفض لما يقرب من عامين ولم يدفعوا ما يقرب من ألف قتيل وما يزيد على ثلاثين ألف جريح ومعوق.
بأي قوة تمكنت إيران من هزيمة مقتدى الصدر، الفائز بغالبية البرلمان الجديد، قبل أن تجبره على الاستسلام وتزيحه من المشهد السياسي وتعيده للجلوس في البيت، هو ونوابه الثلاثة والسبعون
بأي قوة انتصرت إيران على إرادة الشعب العراقي الرافض لها ولهيمنتها وهيمنة الأحزاب والميليشيات الموالية لها؟ بأي قوة تمكنت إيران من هزيمة مقتدى الصدر، الفائز بغالبية البرلمان الجديد، قبل أن تجبره على الاستسلام وتزيحه من المشهد السياسي وتعيده للجلوس في البيت، هو ونوابه الثلاثة والسبعون، بعد أن أجبرهم هو بنفسه على الاستقالة من مقاعدهم البرلمانية؟
قوة إيران في العراق القادرة على فرض أحزابها في مواقع سلطته، وفي سوريا القادرة على إبقاء بشار الأسد في موقعه، لمدة عشر سنوات من ثورة شعبه عليه، وفي لبنان القادرة على فرض هيمنة ميليشيا حسن نصر الله على كامل البلد وقراره السياسي، والقادرة على تفتيت اليمن عبر ميليشيا الحوثي وحرق شعبه بحرب طائفية قذرة، تثير العجب والتساؤل، لأنها ها هي تعجز عن قمع وإيقاف مظاهرات شعبها الثائر ضد بطشها وظلمها واستبداها، والأهم ضد تدخلاتها الخارجية التي لم تورث مواطنيها غير الفقر والعوز والبطالة.
وإذا ما استثنينا العامل الطائفي، وهو العامل الأقرب لتبرير هذه القدرة، في الأدبيات السياسية والتحليلات المتعجلة، ستقودنا التحليلات المعمقة إلى أن إيران لا تتحرك بمفردها وبقدراتها المحلية فقط، بل إن نشاطاتها التوسعية تأتي ضمن مشروع كبير يتعدى حدود قدراتها السياسية والتسليحية والتخطيطية، وإنها تتصرف ضمن مخطط دولي كبير ويتعدى حدود إيران وسلطة رجال الدين المتحكمين بقرارها ويهيمنون على مراكز قرارها.
ما يقودني لمثل هذه الرؤية هي مجموعة من المعطيات التي تحركت إيران عبرها وعلى أساسها، منذ عام 2003، وهو العام الذي أسقطت فيه الولايات المتحدة نظام صدام حسين وسلمت العراق لإيران وتركها لتفصل شكل سلطته الجديدة وفق هواها وما تقتضيه رؤيتها الأيديولوجية، وهي تعرف، سلفاً أبعاد وأهداف تلك الأيديولوجية الطائفية وما تشكله من تهديد وجودي، وليس سياسيا فقط، لأقرب وأخلص حلفائها في منطقة الجوار الإيراني، دول الخليج العربي بكاملها. ثاني هذه المعطيات هو الاتفاق النووي الذي أبرمه باراك أوباما مع إيران عام 2015، والذي لم يكن ثمنه إطلاق يد إيران في العراق فقط، بل وتطويق السعودية بميليشيا الحوثي الموالية لنظام ولي الفقيه مذهبياً، والمدعومة منه ومن حرسه الثوري عسكرياً، والتي تخوض حرب سيطرتها على اليمن وتهدد حدود السعودية ومصالحها الحيوية والاستراتيجية منذ أكثر من ثماني سنوات.
ثالث هذه المعطيات، وهو أهمها من الناحية الاستراتيجية، يأتي من ناحية تهديد السلاح النووي الإيراني (الذي يكثر الضجيج الإعلامي حول خطره وتهديده لإسرائيل)، والذي يمكننا تلخيص أكذوبته بالتساؤل التالي: ما دامت إيران على بعد بضع خطوات من صناعة السلاح النووي وما دامت أول أهداف هذا السلاح هي إسرائيل بالذات (كما تروج ادعاءات النظام الإيراني ووسائل تهريجه الدعائية)، فلم لا تعمد إسرائيل إلى قصف مفاعلات إيران النووية وتحيلها إلى ركام من التراب، كما فعلت مع مفاعل تموز العراقي عام 1981، وهي تمتلك كل الإمكانات لهذا أو بإمكانها الحصول عليها من حليفها الأميركي؟ رابع هذه المعطيات يأتي من جهة إذا كانت أميركا قد قدمت العراق هدية لإيران، نظير تعاونها في القضاء على نظام صدام حسين، لم إذن تسكت على تمددها في لبنان وسوريا والهيمنة عليهما وعلى القرار السياسي فيهما، وخاصة أنهما دولتا مواجهة مع إسرائيل ولم تعقدا اتفاقيات سلام معهما؟
ألا يقلق وجود إيران وسلاحها النووي إسرائيل وهي على حدودها المباشرة وتطوقها عبر الحدود السورية واللبنانية، إن كان العراق يبعد عن تلك الحدود؟ ألا يقلق إسرائيل كم الأسلحة والذخائر التي تنقلها إيران إلى سوريا ولبنان، منذ عشر سنوات، وهدفها المعلن حرق إسرائيل وإغراقها في البحر؟ لم لا تشن إسرائيل حربا حقيقية للقضاء على وجود إيران على حدودها السورية؟
هل دولة إيران الإسلامية أهل للثقة وهي التي بدأت عهدها بمهاجمة السفارة الأميركية في طهران واحتجاز موظفيها لمدة 444 يوماً، وبلا موجب سياسي أو أمني؟
لسنا بحاجة لإجابة على هذه الأسئلة طبعاً، بل نحن بحاجة لسؤال الولايات المتحدة، أكثر دول العالم خيانة لحلفائها ونكثاً بوعودها وعهودها: ما هي الوعود والضمانات التي تقدمها لكم إيران وتجعلكم تثقون بها كل هذه الثقة؟ ما الذي يدفعكم للثقة بالنظام الإيراني وهو الذي قلب عليكم صنيعتكم، النظام العراقي (الذي صنعتموه ونصبتموه بأيديكم) ودفعه لمهاجمتكم وإجباركم على ترك العراق سياسياً والرحيل عنه عسكرياً؟
الولايات المتحدة لا تجيب على هذه الأسئلة طبعاً، وأيضاً لا تتوقف لتتساءل مع نفسها: حسناً، وماذا بعد هيمنة إيران على منطقة الخليج وكامل المشرق العربي؟ هل سيخدمنا تحول إيران إلى دولة بمستعمرات غنية وواسعة النفوذ؟ هل ستبقى وفية العهود لنا على طول الخط، كما فعل حلفاؤنا في الخليج؟ هل دولة إيران الإسلامية أهل للثقة وهي التي بدأت عهدها بمهاجمة السفارة الأميركية في طهران واحتجاز موظفيها لمدة 444 يوماً، وبلا موجب سياسي أو أمني؟
وأخيراً لم يتبق غير أن نتساءل: هل سكوت أميركا على إيران وتدخلاتها التي تهدد مصالح الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، هل هذا السكوت من ذات نوع البلاهة التي قادتها لاحتلال العراق وتحويله إلى دولة فاشلة، من دون أن تفكر أو تضع خطة لاستثماره بعد أن صار في يدها؟ أي هل هو سكوت غباء وعمى حسابات، كما حصل مع أمر احتلال العراق، أم هو مدروس وبأهداف استراتيجية كبيرة؟
ليت السيد بايدن يتكرم ويشرح لنا ما هي هذه الأهداف الاستراتيجية الكبيرة التي لا نراها، وخاصة أن مصير عراق ما بعد حكومته الجديدة التي فرضتها إيران فرضاً، على الشعب العراقي وعلى أميركا، صار بيد رئيس لا يجيد المشي على البساط الأحمر ولا يعرفه حتى من انتخبوه في ما يسمى البرلمان العراقي.. هل المهم أن تعرفه إيران؟ ماذا عنك يا أميركا؟ ألا يهمك معرفة من أين جاء رئيس مستعمرتك العراقية؟