في عام ٢٠٠٨ استضافتني إحدى الإعلاميات في حوار مباشر في إحدى الإذاعات السورية التي كانت تبث من دمشق وكانت تحظى بنصيب جيد من الاستماع والمتابعة من قبل السوريين، كان الحوار مسائيا وممتدا على مدار ساعة ونصف تقريبا، تطرقنا خلالها للحديث عن الشعر والكتابة والحياة والصداقات والعلاقات والحب والمجتمع والمشاريع والأحلام، تحدثنا عن كل شيء تقريبا باستثناء الدين والسياسة طبعا، في تطبيق لتجنب المحظورات في الإعلام السوري (الدين والسياسة والجنس)، طبعا كان من السهل اختراق التابو الثالث/ الجنس، عبر إدخاله ضمن الحديث عن العلاقات وعن الحب، لكن الدين والجنس كانا يحتاجان لاختراقهما إلى تحضير ذهني مسبق ونقاش مع المستضيف وغالبا ما كان ينتهي ذلك بالفشل، إذ إن الرقابة في سوريا لم تكن خارجية فقط، بل كانت رقابة ذاتية نفسية، نمارسها جميعا ونحن نتهيأ للكتابة أو للحديث العلني أمام آخرين أو أمام جمهور يستمع أو يرى أو يقرأ.
لم أعد أتذكر كيف وصل الحديث بنا أثناء المقابلة تلك إلى الطائفية التي انتهى إليها معظم اليسار العربي الذي كان متوهجا في ثمانينيات القرن الماضي، أتذكر أنني كنت أتحدث عن الفصام لدى مثقفي اليسار السوري الذين عادوا في القرن الواحد والعشرين من هويتهم الأممية إلى هوياتهم الطوائفية، حين فجأة سمعت أغنية لفيروز تعلو على صوتي وسمعت المخرج يطالب باستراحة قصيرة ثم تخبرني الإعلامية أن ذكر الطوائف ممنوع تماما في الإعلام السوري، وأن هذا الحديث العابر قد يؤدي إلى إيقاف برنامجها، وهو ما اضطر المخرج لقطع البث المباشر ووضع أغنية.
مصادرة حق التعبير عن كل ما كانت (القيادة) ترى فيه مسا من هيبة الدولة، وهي التهمة التي وجهت لكل من كان يكتب أو يعبر عما هو خارج المسموحات في (سوريا الأسد)
لم يتوقف البرنامج ذاك وقتها لكنني عرفت أن الإعلامية نالت توبيخا شديدا لعدم التزامها بالتعليمات الصادرة عن القيادة، رغم أنني أنا من تحدث وليست هي، وطبعا تعرفون جميعا أن تلك ليست سوى حادثة بسيطة وعابرة من سلسلة طويلة من ممارسات الرقابة السورية على الإعلام والصحافة والكتابة، أو ربما الأصح في القول هو الرقابة على التعبير أو مصادرة الحق في التعبير عن الرأي وحرية القول حينما يتعلق الأمر بالسياسة (رغم أنه لا حديث خارج عن السياسة) أو الدين، أو لنقل مصادرة حق التعبير عن كل ما كانت (القيادة) ترى فيه مسا من هيبة الدولة، وهي التهمة التي وجهت لكل من كان يكتب أو يعبر عما هو خارج المسموحات في (سوريا الأسد) في عهد الأب وعهد الابن.
نهض السوريون في شهر مارس/ آذار ٢٠١١ وصرخوا في ساحات وشوارع سوريا معبرين عن كل الغضب والقهر الذي تراكم في نفوسهم على مدى عقود طويلة، كان الربيع العربي الذي بدأ في تونس وأينع في مصر قبل شهرين قد فعل فعله في وجدان السوريين الذين لم يعان أحد مثلهم من القمع والرأي الواحد والإقصاء والخوف من التعبير والقول، خرجوا في شوارع المدن السورية كما لو أنهم خرجوا عن خمسين عاما ماضية، قالوا بعضا مما رغبوا بقوله خلال الخمسين سنة الماضية، قالوه بقوة وإصرار خلخل ثوابت المجتمع السوري وثوابت رقيبه الخارجي والداخلي، ما زاد في خوف شرائح أخرى في المجتمع كانت تتوهم أن كل شيء تحت السيطرة وأن لا مشكلات تؤرق المجتمع والشعب، أما حرية التعبير فلم تكن أصلا في وارد هذه الشرائح التي اعتقدت طويلا أن خطابها وطني سوري لا فئوي وطائفي. ذلك أن المنع الطويل في حديث الطائفية السورية وفي حديث السياسة وفي حديث الدين أهم من السوريين بأن المجتمع بألف خير وأن سوريا كلها بألف خير. لم يحتج الأمر أكثر من مظاهرات غاضبة في غير مدينة أو بلدة أو حي سوري حتى تذوب القشرة الواهية التي علت المجتمع ويظهر الخراب بكامل وضوحه.
الحق في التعبير والحق في إبداء الرأي كانا في مقدمة أهداف الثورة السورية عام 2011، وهو ما يجعلنا نتذكر العتاب الشهير إثر المؤتمر الصحفي لمستشارة رأس النظام بثينة شعبان بعد المظاهرات الأولى: (يا بثينة ويا شعبان الشعب السوري مو جوعان)، لم يخرج السوريون غاضبين بسبب الجوع، لم يفعلها السوريون يوما ذلك أن السوري كان دائما قادرا على العيش في أسوأ ظروف المعيشة، كان خروج السوري بحثا عن كرامة مهدورة وعن حق مغتصب في القول والرأي والمشاركة والوطن، عن حق مغتصب في التعبير عما يشعر به وعما يعتمل في نفسه وعن رأيه الحقيقي بما يحدث من حوله سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ووطنيا. اشتغل النظام السوري طويلا على تعويد السوريين على الخوف مثلما اشتغل بدأب مهول على تدجينهم ووضعهم في حالة القطيعية والرؤية الواحدة، بالمراوغة مرات وبالترهيب والقمع مرات أكثر، لكنه اكتشف في ٢٠١١ أن محاولاته قد تم اختراقها في نفوس السوريين الذين أثبتوا أنهم ليسوا أصحاب رؤية واحدة، وأن الأوطان والمجتمعات لا تبنى برؤية واحدة بل برؤى مختلفة وبآراء وتطلعات متعددة تشترك جميعها بهدف التقدم وتطوير المجتمع.
أثبتت الأحداث السورية أن الأوطان والمجتمعات لا تبنى بالرأي الفردي أو الواحد أو الموحد بل تحتاج إلى الاختلاف وإلى الحرية في الاختلاف
ما كان يجب أن تفعله الثورة السورية على الأقل هو الإصرار على هذا التنوع والاختلاف، ذلك أنه أكثر ما كان يمكن أن يميز مناصريها عن النظام ومناصريه، وأكثر ما يمكن أن يجعل مناصريها قادرين على الفعل والإنتاج والعطاء، لكن المسار الذي اتخذته الثورة بعد ٢٠١١ والمآلات التي وصلت إليها والهزائم التي منيت بها، للأسف أنسى السوريين أحد الأهداف الرئيسة للثورة: حرية التعبير والحق في الاعتراض والنقاش والرأي المختلف، وبدلا من تهمة المس من هيبة الدولة صار لدينا تهمة المس في هيبة الثورة، تحولت الثورة مثل النظام إلى مقدس آخر وتحولت سلوكيات أفرادها أيضا إلى مقدسات صار لدينا أيقونات يمنع حتى مناقشة صوابية مساراتها. وبطبيعة الحال يمكن فهم هذه الحالة لدى العامة الذين يشعرون نفسيا بالهزيمة ويحاولون ادعاء العكس فيظهر لديهم الميل إلى العنف والديكتاتورية بما يخص آمالهم المجهضة، خصوصا مع استخدام وسائل التواصل التي تلبي احتياجات العامة إلى الانخراط في رأي عام موجه يساعدها على تخطي أزمة الهزيمة الفردية والعامة. لكن عندما يتعلق الأمر بالنخبة المثقفة أو بالإعلام الثوري الذي يفترض أنه يحمل قيم الثورة وأهدافها فالأمر يدل على مأزق كبير وخطير، لعل إعادة إنتاج سلوكيات وذهن النظام في التعامل مع الرأي المختلف والرأي الناقد والرؤية المغايرة هو دليل ملموس على هذا المأزق.
أثبتت الأحداث السورية أن الأوطان والمجتمعات لا تبنى بالرأي الفردي أو الواحد أو الموحد بل تحتاج إلى الاختلاف وإلى الحرية في الاختلاف وإلى المنابر الصالحة لتبني كل الآراء المختلفة. لا ينتج قمع حرية التعبير والرأي سوى دول ومجتمعات فاشلة، يبدو الآن صرنا مضطرين للقول عاليا إن الثورات أو التغيير إذا لم يترافق مع مساحة كافية من الحرية للرؤية والرأي المخالف في الثورة ومآلاتها ومساراتها وتحالفاتها وتوجهات فئاتها، وفي السياسة العامة المحلية والعربية والعالمية وفي مسألة وشأن حساس ومؤثر مثل التدين ومظاهره وما نتج عنه ما قبل الثورة وما بعدها، فهو تغيير مصيره الفشل حتما، أو هو تغيير ينحو نحو إحلال ديكتاتورية جديدة تحل محل تلك الآفلة.