في بداية الثورة السورية، وتحديدا في منتصف شهر نيسان / أبريل من عام 2011، كنت ما أزال أعمل كموظفة في اتحاد الكتاب العرب في دمشق (ولوظيفتي تلك قصة طويلة ومثيرة ربما أكتب عنها ذات يوم)، وكانت (خطة بندر) كما اصطلح على تسميتها ذلك الوقت ما زالت سيرة يرددها أعوان النظام والمسؤولون فيه وكل من خاف وقتها من الثورة سواء لعدم الفهم أو خشية زوال مكتسب يظن أنه منحة من النظام الحاكم.
في ذلك الوقت كان موقفي المؤيد للثورة معلنا وواضحا، خصوصا بعد أن تم اعتقال ابنتي في المظاهرات الأولى في شهر آذار/ مارس، وانتشر الخبر في الإعلام العربي (وهنا أتذكر أن د. حسين جمعة رئيس الاتحاد ذلك الوقت استدعاني إلى مكتبه وأشهر في وجهي ورقة مطبوعة لأقرأها وهو يرمقني بنظرات فيها الكثير من الاستعلاء والسخرية من غبائي وعدم إدراكي لما يحدث أنا وابنتي الشابة التي تم التغرير بها، وبطبيعة الحال، كما قال لي يومها، كانت في الورقة. طبعا، تفاصيل خطة بندر كما كتبها الجهاز الأمني المختص وقتها). أتذكر أنه في ذلك الوقت من عملي في الاتحاد كنت عرضة لكل أنواع الاتهامات والتخوين، اتهمت بأنني عميلة وخائنة وأقبض مرتبا شهريا من بندر (قبل قطر)، واتهمت، بسبب طائفتي، أنني أعمل لصالح النظام وأتجسس على زملائي المؤيدين للثورة وأقبض مرتبا شهريا من جهاز أمن ما، واتهمت بأنني خلال أقل من شهر اشتريت بيتا في منتصف دمشق وسيارة (كاديلاك) حمراء، من الأموال التي كانت تتدفق علي. كلها كانت اتهامات الهدف منها تشويه سمعتي (كما حصل مع جميع من أيد الثورة من الشخصيات المعروفة ولو على نطاق ضيق)، ومحاولة إعادتي عن غيي إلى طريق الصواب المتمثل في تأييد النظام.
تم فصلي لاحقا، في منتصف 2011، من عملي لأسباب أمنية كما قالوا لي، دون أي تعويض مادي عن سنوات خدمتي، (ربما ظنوا أن أموال بندر وقطر التي تتدفق علي شهريا كانت فائضة عن حاجتي).
في ذلك الوقت، أي في الشهر الرابع من عام 2011، التقيت في مكتب المرحوم الشاعر إبراهيم الجرادي، الذي كان عضو مكتب تنفيذي في الاتحاد وقتها، بالدكتور نضال الصالح وهو ناقد وأكاديمي يعمل أستاذا في مادة الأدب المقارن في جامعة حلب ومعروف لدى العاملين في الوسط الثقافي في سوريا، كان قادما وقتها من حلب لحضور اجتماع ما في الاتحاد، وكان الحديث يدور عن الحدث السوري الأكبر والأخطر في ذلك الوقت، أتذكر أنني سألته يومها ما رأيك بما يحدث وأين موقعك من الحدث، فأجابني: (أنا مع الوطن!) بالنسبة لي كان هذا الجواب كافيا لأدرك موقعه ومع من يقف تماما، وهو ما جعلني غير متفاجئة من الأخبار التي سمعتها في السنوات اللاحقة عن ممارساته بحق زملاء وطلاب له.
كانت جملة (الوقوف مع الوطن) هي محاولة للهروب من استحقاق الموقف الواضح ذلك الوقت والاحتماء بضبابية الجملة، فالوطن لم يكن واحدا لدى السوريين، أو لنقل إن الوطن بوصفه ملكا لجميع أبنائه كان غائبا تماما، كان النظام هو الوطن، وكانت الطائفة هي الوطن، وكان المكتسب الشخصي هو الوطن، أما الوطن الذي يضمن العدالة والمساواة بالحقوق والواجبات لجميع مكوناته ويمنح أبناءه هوية المواطنة بكل ما لها وما عليها، فكان غائبا تماما، لم يكن السوريون مواطنين بل رعايا لدى نظام يعتبر سوريا مزرعة يتوارثها الأبناء عن الآباء، ولم يكن الوطن سوى شعار دوغمائي يستخدمه النظام الحاكم ليريح به ضمير رعاياه بعيدا عن التفكير في أي استحقاق أخلاقي وإنساني وتغييري كاستحقاق الثورة السورية.
رحل نضال صالح قبل أيام قليلة في حلب بعد عزلة طويلة إثر مرض أصابه، وبعد أن تعرض للفصل من الجامعة كعقوبة (ليس مؤكدا) كما قرأت.
هذا الوطن الذي كان نضال الصالح يقف معه جعل منه رئيسا لاتحاد الكتاب العرب لأقل من دورة واحدة قبل أن تقرر قيادة الوطن عزله واستبداله، طالبة منه التقدم بطلب استقالة في المؤتمر العام للاتحاد عام 2019، بعد تعرضه للكثير من الاتهامات من بعض أعضاء الاتحاد الذين تعرضوا في عهده للتهميش بسبب عدم توافقهم مع توجهات، ما جعل قيادة حزب البعث تقرر التضحية به كي لا يقال إن هناك انقلابا يحدث ضد رغبتها في اتحاد الكتاب؛ لكن مسيرته منذ جوابه لي وحتى استلامه للاتحاد كانت حافلة بالكثير من الخدمات الرخيصة، للأسف، للنظام وفروعه الأمنية، خدماته للنظام كانت ضد زملاء له في الجامعة وفي حقل الكتابة وفي اتحاد الكتاب، وضد طلبته في الجامعة من شباب (الوطن) الذي لطالما تباهى بالوقوف معه. رحل نضال صالح قبل أيام قليلة في حلب بعد عزلة طويلة إثر مرض أصابه، وبعد أن تعرض للفصل من الجامعة كعقوبة (ليس مؤكدا) كما قرأت.
وقد نشرت طالبة له مقيمة في فرنسا منذ عدة سنوات منشورا على صفحتها على الفيسبوك عند انتشار خبر رحيله تتحدث فيه عن الرعب الذي كان يشكله نضال صالح لطلبته في الجامعة، إلى حد أنها لم تتجرأ يوما عن فك الحظر عن صفحته خشية أن يسبب لها الأذى حتى وهي في فرنسا.
قد يقول البعض إن الموت ليس مناسبة لتذكر المثالب من باب: (اذكروا محاسن موتاكم)، وإن الموت قد يجب ما قبله، لكن هناك مفاصل تاريخية لا يمكن التعامل معها كما يحدث في الأوقات العادية. لم تكن الثورة السورية بكل ما جرى فيها حدثا عاديا في التاريخ السوري، بل هي الحدث المفصلي والرئيسي في هذا التاريخ، ذلك أنها غيرت شكل سوريا إلى زمن طويل جدا، رغم الثبات الذي نعيشه حاليا في الوضع السوري؛ نتائج ما حدث سوف تظهر لاحقا، بغض النظر عن إن كانت هذه النتائج سلبية أم إيجابية؛ وهذا عموما ما سيحدث للمنطقة العربية كلها؛ وبغض النظر أيضا إن كان الربيع العربي مخططا له أم جاء عفويا، ومثله الثورة السورية، فإن كمية الإجرام والعنف التي أبداها النظام السوري ضد الشعب وبيعه لسوريا واستقدامه لميليشيات واحتلالات من كل مكان، وإطلاقه للخراب من القمقم الذي كان يحبسه به يجعل من كل من يؤيده أو يسانده أو يسلك نفس سلوكه مسؤولا أمام الزمن والتاريخ والعدالة، فما بالكم بمن لم يتوان ويتورع عن تسليم الشباب للاعتقال والموت وهو يدعي أنه يحمي الوطن ويقف معه؟.
يعيش هؤلاء حياتهم من دون عقاب على ما ارتكبوه، التذكير بمساهماتهم في الخراب الحاصل فيه بعض العدالة لضحاياهم.
بعد الحدث السوري لا يمكن القول إن الموت يجب ما قبله، ولا يمكن التغاضي عن كل الارتكابات التي ارتكبها البعض بحق السوريين بذريعة موتهم ورحيلهم. يعيش هؤلاء حياتهم من دون عقاب على ما ارتكبوه، التذكير بمساهماتهم في الخراب الحاصل فيه بعض العدالة لضحاياهم؛ ولنستعيد هنا ما يكتبه مؤيدو النظام على صفحاتهم لدى رحيل أي شخصية من الشخصيات العامة المؤيدة للثورة، حتى ممن كانوا طوال الوقت يدعون للنضال السلمي ويقدمون خطابا وطنيا جامعا بحق.