من إحدى مزايا التطبيع الراهن، بين نظام الأسد وعدد من الأنظمة العربية، التي يُسارع إلى إنجازها البعض في السر والعلن، أنها تُصدر شهادة وفاة لمفاهيم وأشكال العمل السياسي والاجتماعي والوطني، مفاهيم لم تعد تمتلك مقومات الحياة التي نعاها السوريون منذ اليوم الأول للثورة وهم ينظرون اليوم للجهود " الجادة "من أجل تسيد نظام الأسد مرحلة جديدة من التحكم برقاب المجتمع السوري، والتي نعيش فصلها المخزي بانتخابات هزلية على تحطيم وتدمير المجتمع السوري، يُكرر فيها المندفعون للتطبيع مع الأسد على مسامع السوريين بأن أحد العوامل الدافعة نحو تسوية مع النظام "تغير الظروف "، ومن أجل استقرار سوريا ووحدتها وما إلى هنالك من شعارات تخفي وراءها كل أشكال النفاق الممارس على السوريين وقضيتهم.
هذه الادعاءات تعوزها الحصافة، بل وحتى الذكاء، فبالإضافة إلى أن الحس الشعبي السوري بعفويته، يدرك تلك الادعاءات الكاذبة، فإن الوقائع التي ما زالت قائمة على الأرض تنفي هذا الأمر باعتراف قادة حول العالم، وسياسيين وتقارير دولية وحقوقية تم من خلالها التيقن من حجم الجرائم المنسوبة مباشرة لنظام الأسد ومسؤوليته المباشرة عن مقتل وتهجير الملايين من السوريين، فضلاَ عن جرائم الحرب والإبادة ذات الصبغة العنصرية، وهي من أسطع الجرائم التي حاولت أنظمة التطبيع العربي مع الأسد ومع الصهيونية القفز عليها طيلة السنوات الماضية لأسباب عديدة منها :
يشير كل ذلك إلى صيغة جديدة تمثل انعكاسا لاستمرار وحدة الاستبداد العربي، وتماسكه المعني بالتمسك بمنافع الطغاة والمستبدين بوظيفة القهر المستدام للعقل والإنسان العربي
القول بأن مرحلة انتهت من ثورة السوريين، يعني القول بمرحلة جديدة بدأت، فما هو الجديد الآخذ بالتشكل؟ نظرة على قدر من التدقيق في ظاهرة انتشار دعوات التطبيع مع نظام الأسد إقليمياً وعربياً من موسكو وطهران، وأبو ظبي والرياض والمنامة والقاهرة و بيروت، وبقية العواصم التي تتحين الفرصة؛ توضح بأننا أمام حالة جديدة آخذة بالتشكل العلني ضد حرية السوريين، فبعد سنوات من ممارسة نفاق الدعم اللفظي لتطلعاتهم في الحرية والكرامة، وممارسة الدعم السري والعلني لآلة النظام العسكرية والمادية، وتجسيد سياسة قهر اللاجئين السوريين في عواصم ومدن عربية، يشير كل ذلك إلى صيغة جديدة تمثل انعكاسا لاستمرار وحدة الاستبداد العربي، وتماسكه المعني بالتمسك بمنافع الطغاة والمستبدين بوظيفة القهر المستدام للعقل والإنسان العربي، وكلمة السر التي ارتكز عليها نظام الأسد في إمساكه مفتاح فرض وحشيته على السوريين، هي ما جرى من خلالها جذب شهية صهيونية وعربية باستدامة القمع والاحتلال والمضي بهما مستنداً إلى كلمة السر ذاتها، فرحلات التطبيع السري بين حميميم في اللاذقية وتل أبيب برعاية روسية، لا تختلف عن سرية الرسائل العربية المطبعة معه لدعم إدامة بطش الأسدية.
هذه العناصر المحفزة لأنظمة عربية، كانت بالأمس محل تندر من محور الممانعة، من المؤامرة، وارتباطاتها المتصهينة التي كان يعزف نشيدها تستعيد اليوم ناظم الصلة فيما بينها بعد النجاح الجزئي للثورات المضادة، وتجعل من التطبيع العربي مع المؤسسة الصهيونية ضرورة للتطبيع مع الأسد، مما يوحد من إيقاع حركتها ويجعل من نشاطها تكاملياً استحضار الاستخلاص المأخوذ من تجربة الثورة السورية، بأن حجم التآمر على الشعب السوري وسط عالم متكامل من التآمر على الثورة، وهي عوالم تَضييع وتَمييع الأمور، وتعويمها، واستطرادا أغلقت موسكو وطهران والنظام في دمشق الممر الاجباري الوحيد، الذي لا بد منه للعبور نحو طريق آخر غير طريق الانحدار الذي فُتح بالتساهل مع جرائم الأسد والتطبيع معه، وصولاً لمهزلة إعادة انتخابه للتعمية على الجرائم والقفز على المطلب الأساس في نيل السوريين حريتهم وكرامتهم.
هذه العناصر المحفزة لأنظمة عربية، كانت بالأمس محل تندر من محور الممانعة، من المؤامرة، وارتباطاتها المتصهينة التي كان يعزف نشيدها تستعيد اليوم ناظم الصلة فيما بينها بعد النجاح الجزئي للثورات المضادة، وتجعل من التطبيع العربي مع المؤسسة الصهيونية ضرورة للتطبيع مع الأسد
يبقى التمتع بالمنافع المتبادلة لبقاء نظام الأسد، والتطبيع معه من أنظمة عربية متصهينة وأخرى تتصهين، عوامل تضمن للمحتل الصهيوني تأمين موارد فاشيته، ولما تخلفه منفعة وجود الأسد كقوة باطشة وقاهرة على المجتمع تخدم نهاية المطاف نظرية القمع والسطوة والعدوان وتزوير الوقائع، ليصبح الأمر على نحو سخيف وسقيم في الإشارة للمفاهيم الكسيحة التي يتسلح بها نظام الأسد وحلفه العربي والإقليمي، ومن يقتات على تجارة وقحة، قامت بالأساس على سلعة الشعارات الفاسدة من "تحرير القدس" والاحتفاء بيومها وصواريخها الخُلبية، وحماية السيادة الوطنية ومقاومة المؤامرات إلى التذرع "بدعم" فلسطين والشعب السوري.
أخيراً، علينا الاعتراف بأن حجم مجافاة الواقع كبيرة جداً، كما أن الحلقات التي تضغط على عنق السوريين تضيق وتضيق، ولكننا نعي أن عوامل مقاومة نظام الأسد، ونهوض المجتمع السوري وثورته على نظامٍ متعرٍ هي أيضاً عديدة وستبقى تبعث على التفاؤل، ولعل اهتزاز الأسدية في المجتمع السوري تمثل نموذج على بواعث هذا التفاؤل والأمل، رغم العتمة تبقى تضحيات السوريين وأحلامهم في الحرية واسترداد الكرامة والمواطنة هي الباقية والمرعبة لأنظمة التطبيع مع الأسد والصهيونية، وعتمة الراهن مهما اشتدت لن تبدد هذا الحلم وهي منفعة سوريا والسوريين بكنس الطاغية.