تخيل، أن ينهش القمل جسدك العاري وعيناك تغرق في عتمة زوايا الغرفة، المنفردة، التي تطبق عليك. والمنفردة تعتبر رفاهية مقابل أن تُحشر في "قاووش" لا يتسع فيه لمكان تريح به جسدك المنهك، لكنك مسجل خطر! فكيف وإن تم ربط يديك في سلسلة للأعلى ورجلاك تكاد تلامس الأرض، ولا تعرف ما الذي ينهال عليك من كل صوب، ويسيل الدم الحار من كل جنابك ولا تراه! أو أن يدخل رأسك ورجلاك معًا في دولاب! أو تربط يداك من الخلف بقدميك على كرسي مقلوب! ولا تعلم شكل السوط الذي يقتلع جلدك ولحمك! وهذا القليل مما يقاسيه المعتقل في سوريا! وحين أدرك المعنى أتساءل من هم الناجون؟ هل هم أولئك الذين لا زالوا أحياء في المعتقل؟ أم أولئك الذين أفرج عنهم ويعانون من كل عواقبه النفسية والجسدية؟ أم هم أولئك الذين قضوا في المعتقل وارتاحوا من عذاب المعتقل أو ما بعده؟
في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني لعام 2023 الفائت، تمكنت الشبكة السورية لحقوق الإنسان من رفع حصيلة المعتقلين والمختفيين قسريًا في سوريا إلى 135 ألف، وتضمين ذلك في قرار الجمعية العامة للأم المتحدة، حسب تقرير نشرته على موقعها. وإذ تشير جملة "تمكنت من رفع حصيلة" إلى أن أعداد المعتقلين والمختفين قسريًا يفوق ذلك بأضعاف طوال السنوات الماضية. ويشير مصطلح "المختفين قسريًا" على أولئك الذين لا دليل يوثق أنهم معتقلون أو قضوا في إحدى المجازر المرتكبة بحق الشعب السوري. وكانت الشبكة قد وثقت ما لا يقل عن 221 حالة اعتقال أو احتجاز تعسفي في ذات الشهر بينهم 19 طفلًا و14 سيدة فقط! ويؤكد التقرير، تبعًا لما هو معروف عرفًا عن أقبية الاعتقال التعسفي والجريمة المتكررة يوميًا في سوريا، أن المعتقلين هم ضحايا مرورهم على حواجز النظام أو مداهمات تنفذها قواته التابعة للفروع الأمنية المتعددة بناء على تقارير يكتبها مؤجروه ممن ينامون مرتاحي البال لتأديتهم خدمة للوطن، ويا لهذه الإنسانية الميتة!
كم يطول ليل أمهات المعتقلين والمعتقلات يرقبن ساعات الوقت تمر ثقيلة، وزنها وزن سنوات من ليال السهد والانتظار. فيما لم يزل ملف المعتقلين والمغيبين قسريًا ملف يفتقد الآلية الناجعة من التعامل معه والكشف عن مصيرهم
الاعتقال التعسفي لم يزل لليوم ملفًا تستخدمه سلطة النظام السوري للضغط فيه سياسيًا على السوريين والمجتمع الدولي، فيما هو ملف إنساني فوق تفاوضي كما أفادت مواثيق الأمم المتحدة وقراراتها المتعقلة بسوريا خاصة القرار 2254. فلا زال الاعتقال يتم دون وجود مذكرة قضائية ويمنع المعتقل من التواصل مع أهله أو محام، إلى أن يقضي السجان والمحقق في أمره. ورغم ما حاولته السلطة السورية مرارًا من تزييف الحقائق بالادعاء عن إيقاف عمليات التعذيب في السجون السورية، لكن دوامات شتى أنواع العنف الجسدي والنفسي لم تزل تمارس على المعتقل، وهذا مالا يتخيله عقل! هذا بالإضافة لتحويل غالبية ملفات المعتقلين أمنيًا لملفات جنائية وتحويلها لمحكمة الإرهاب كما حدث مع معارضي السويداء حين تم اتهامهم زورًا بحرق مبنى المحافظة بنفس هذا الوقت العام الفائت، فيما كانت الأجهزة الأمنية وعصاباته المرتبطة هي الفاعل وبالأدلة والشهود.
كم يطول ليل أمهات المعتقلين والمعتقلات يرقبن ساعات الوقت تمر ثقيلة، وزنها وزن سنوات من ليالي السهد والانتظار. في حين أنه لم يزل ملف المعتقلين والمغيبين قسريًا ملفا يفتقد الآلية الناجعة في التعامل معه والكشف عن مصيرهم. فبعد مرور اثني عشر عاماً على زمن أكبر جرائم العصر، قامت حكومتي كندا وهولندا في تشرين أول/أكتوبر الماضي بتقديم ملف النظام السوري وحكومته لمحكمة العدل الدولية للتحقيق في الجرائم المرتكبة في حق المعتقلين السوريين. ومع هذا لم يزل طريق العدالة شاقا وطويلا تعتريه العقبات والصعوبات. لكن ثمة ما قد يشير لبداية جبر خاطر للأم السورية بعد طول انتظار، أقله محاكمة بعض من مارسوا التعذيب بحق أبنائهم. وهو ما أقامت له مظاهرات السويداء، ومنذ قرابة الشهرين، يومًا خاصًا لبدء المحكمة المتشكلة بحق الحكومة السورية بخصوص ملف المعتقلين. واليوم يتجدد الموعد بالعمل على أسبوع للمعتقلين في ساحات الكرامة.
الجميع يترقب أي تغيير في المسرح السوري، من مسرح وحيد الخطاب واللهجة المحرضة على الولاء والعبودية، يقوم بإلقائها "عريف القوم" من أركان السلطة البعثية، إلى مسرح وجود متعدد المواهب والتفاعلات والبهجة. من مسرح يستحضر النزعة الفردية المهيمنة سيكولوجيًا على نص ينتظر الجمهور منه قولًا رحيمًا، يقيم مجزرة للمشاعر الإنسانية كما عاش جيلنا من طلائع البعث لشبيبة الثورة لحزب البعث واتحادات العمال والفلاحين، إلى مسرح للعدالة واحترام الإنسان وحقه في القول والتعبير. ومسرح الموجة الثانية للثورة من ساحة الكرامة، مسرح تفاعلي وجماعي وصل لقلوب السوريين، خاصة ذوي المعتقلين، في كل شتات الأرض لدرجة أنهم يشعرون بأنهم مشاركون فيه ويتناغمون مع تنويعاته الفنية والأدبية والفكرية. مسرح يطالب بالعدالة والسلام، والذي يبدأ بتقديم ومحاسبة كل من ارتكب جريمة في حق السوري المطالب بحريته وكرامته إلى العدالة. وليس هذا فقط، بل يتابع متظاهرو مسرح ساحات الكرامة العمل على إقفال مقرات حزب البعث ولجم كتبة تقاريره وكشفهم، تلك التي تكتب بأصحاب الرأي وتكون السبب الرئيسي في الاعتقال. هو مسرح يكتظ بصور المعتقلين والمغيبين قسريًا والحزن والألم عنوان المشهد، والسلام والعدالة شارته، ويا له من مشهد أليم.
لا أحد يمكنه تخيل ما يجري في مسالخ الموت والتعذيب في السجون السورية، فرغم القسوة التي فضحتها صور "قيصر" ال55 ألف التي سربت منذ بدء الثورة السورية، لكنها لم تكن سوى مشهد من فصولها
في ساحة الكرامة تعدد الممثلون والمسرح واحد، اختلفت النصوص والصوت واحد. تغيرت الخلفية من صور القائد الخالد الأوحد ورموز البعث والسلطة "الأبديين" إلى صور السوريين من رجال الثورة السورية الكبرى، وصور المعتقلين وضحايا حرب السلطة على المجتمع. تبدلت الأدوار من جمهور مصفق ومهلل، مجبرًا وكارهًا أو منتفعًا بمناصب بخسة بإرادته، يدبك على وقع موسيقا الحرب التي تروجها سلطة البعث العسكرية، إلى أصوات حرة متناغمة متعددة المواهب والألحان متمايلة على لحن موطني، وتنفجر الصدور حبًا بعد قمع وقهر. موطني، موطننا نحن، الأرض والسماء والتاريخ والحضارة. في حين أن عيني شقيق ناصر بندق المعتقل منذ 2014 وعيون أصدقائه، ورفاق درب كل المعتقلين السوريين ترتقب يوم فرج قريب..
لا أحد يمكنه تخيل ما يجري في مسالخ الموت والتعذيب في السجون السورية، فرغم القسوة التي فضحتها صور "قيصر" ال55 ألف التي سربت منذ بدء الثورة السورية، لكنها لم تكن سوى مشهد من فصولها. فلربما حالف أصحاب تلك الصور الحظ بأن يكونوا قضوا موتى بدل بقائهم على قيد الموت المقنن، وآلات التعذيب تفعل فيهم فعل الموت النفسي والعقلي والجسدي المتكرر كل ساعة!
مسرح السوريين اليوم، مسرح تنفتح فيه مقل العيون وتنفجر دمعًا، والجميع يرنو اليوم للعدالة وجبر خاطر الأم السورية بمحاكمة المجرمين بحق أمهاتنا كما المعتقلين، وعلّ مسرح السياسة التسلطية الأمنية السورية بأكمله بات بحكم الماضي وتغييره قريب..