اللعبة القذرة المتسلسلة

2024.06.16 | 06:21 دمشق

567567
+A
حجم الخط
-A

ليس من الضروري أن تكون مختصاً لتكتشف لعبة النظام في سوريا عموماً وفي السويداء خصوصاً الآن. حتى إن عملية إدارة الحكم لم تخطر ببال النظام السوري للحظة كعلم وأخلاق وبناء قيمي وعمران وطني وإنساني. علينا إعادة النظر في جملة المكونات العامة والخاصة والداخلية والخارجية التي شكلته.

إن بلدًا بحكم ناهض، هذا يعني بكل بساطة اقتصادًا قويًا يحميه تشريع قوي وعلم ودراية في السياسة وغيرها من العلوم المتآزرة. هذا سينتج على كل صعيد ما هو مهم وثمين. الاقتصاد الوطني الصحيح يسمح لك بعملية الاستقصاء والتنبؤ بطرق وتوقعات نظامية. ليس الاقتصاد فقط، بل تأتي المعرفة في خدمة الوطن والإنسانية.

يظهر أن ما يتعلق بالخدمات والخطط التنموية والبحثية وسبل الرفاهية والتأثير الحضاري والأدوار الفاعلة على كل المستويات لم يكن حتى هامشاً. فقد تصدر الاهتمام عبر خطابات حماسية وعاطفية خدمت فساد النظام على أكمل وجه. تأتي إحدى مآثر الثورة السورية بكشفها الخاص الذي عرى تماماً الحكم السلطوي. كل ما تم خلال عقود هو مطبوعات تحدثت عن منطلقات نظرية لحزب حاكم له ضرب من التشكيل اللغوي والفكري، ما يدعو للعجب من التمادي في الكذب والادعاء والاعتداء على الفكر.

الإعلام الموجه كما أطلق عليه هو في الحقيقة خدمة دعائية ساعدت في التنميط ونشر ثقافة الذل والخوف واعتبار حالة القطيع حالة مثالية للتعبير عن الولاء والقيمة للوطن. الوطن هو القائد الرمز قولاً واحداً. الإعلام الهابط كان منسقًا ضمن مقولة خلبية تتحدث نحو بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد. ضمناً، هو خطاب كيفي بمعنى التوليف والتدجين. خلف هذا وذاك، جهاز أمني تفرع وتفرعن عبر تخصصات ووظائف وعمليات إفساد وفساد وتخريب.

المشهد السوري الآن هو مشهد متسارع يشي بكثير من المفاجآت التي ستؤدي بالضرورة إلى منعطفات مفصلية وقوى فاعلة، منها المركزي ومنها الهامشي

على مدار السنوات المنصرمة والراهنة، بلغ النظام الذروة في السيولة الأمنية. البعض ظن أنه لم يعد بالإمكان أن يستمر في نفس الفرائض والأداء. ومع أن الأمر استطال وتعمق على صعيد الصراع، لم يعد خافياً على أحد أن الظروف أخذت صيغاً جديدة لم تكن بصالح النظام. كل من لعب على الساحة السورية غرق في نزاع مستنزف كل طاقته، ولم يستتب الأمر لا لقوة إقليمية ولا عالمية. على العكس، أدخلت القوى الرئيسية اللاعبة ومعها ما تفرع من أذرع عمليات اقتتال وتنافس بيني، أفلس فيه الجميع، وأولهم النظام نفسه.

المشهد السوري الآن هو مشهد متسارع يشي بكثير من المفاجآت التي ستؤدي بالضرورة إلى منعطفات مفصلية وقوى فاعلة، منها المركزي ومنها الهامشي. قد يأخذ الأمر صورة دراماتيكية، ومن ثم تتعين مكامن القوة في التموضعات والمنعرجات القادمة. لكن هل استوعب النظام اللحظة أم أنه يمر بحالة نكران كما حصل لكل نظام ديكتاتوري؟ الديكتاتور يؤمن تماماً أنه حاضر عبر مديح المقربين وغياب الجمهور، وذلك بممارسة لعبة التضليل التي يقوم بها هو ثم يصدقها. فهو الأسد كما تريد حاضنته: الأسد أو نحرق البلد. وهو مستمر في خطابه القهري والسلطوي. كم يبلغ من عمى البصيرة عندما يكون مقتنعاً أنه لا مفر من أنه أنزل الجميع منزلة القطيع. سيكون مستعداً لأن يعاقب بالسجن والقتل والفتنة أي حالة تمرد.

هكذا قضى الأمر معه في السويداء. رأس النظام يعتقد أنه يتعامل مع جمهوره الخاص، الجمهور المغفل المتراص حول حماية طائفته. وكل جمع في سوريا هو مثل جمعه: كتلة متراصة بحالة غفلة وتغييب كامل. ولما تشاء الظروف استمرار الحراك كل هذه الفترة، يعود لوصف الحراك عبر أذرعه الرخيصة بالجمع البهيمي أو الطائفي أو غير العاقل أو المرتبط. يعود مرات أخرى للعبته الأمنية القديمة: مرة بادعاء وجود داعش في منطقة قريبة من سكن البدو، ومرة بمسرحية هزيلة قدمها مرتجلاً، حيث هاجم الوكر كما ادعى وقضى على أحد "الإرهابيين" وصادر متفجرات.

لم يقتنع الجمهور المحلي أبداً بالأداء والفحوى والإخراج، لكن بلغت الرسالة مفادها أنه سيلجأ للعبة داعش إذا لزم الأمر. إيران تسللت إلى المنطقة وما زال مرتبطاً وباراً لدولة الملالي، والتي ستغطي في هذه الفترة كذبه والتفافه على مطالب القمة العربية المؤيدة دولياً والمعروفة بسياسة الخطوة بخطوة. في السويداء أيضاً، يلجأ لتجزئة مشيخة العقل، معتقداً أن الولاء لها كمشيخة. وفاته أن الأمر متعلق بشخصية وجاهية اجتماعياً مرتبطة بشخصية شيخ العقل الأول، الشيخ الهجري. الأمر الذي لا بد من إيضاحه، أن المشيخة لا تتدخل بالدين بناءً على نصوص ومسلك في الدين نفسه. لكن الأمر برمته متعلق بمواطن سوري قبل لقبه ومكانته، هو ابن سوريا الذي ناصر ويناصر الحق ويعلن أن دم السوري على السوري حرام. يبارك الحراك مدركاً أنه واجب مقدس وفي ميزان الضمير الوطني والتاريخ. أنه الواجب الأقل الذي نقدمه للوطن. عندما يعلن العلمانية يعرف ما يقصد، إذ إن الدين حرية مقدسة للجميع. النضال ضد من اغتصب الوطن والمواطن هو شأن الجمع السوري برمته.

عندما يسقط من يدي السلطة التدخل والذي تتمناه بأبشع صورة، يعود الأمن ليستنهض شخصيات عائلية تحمل ألقاباً تراتبية لتؤدي أدواراً معطلة للحراك، ولكن مرة أخرى يفشل. الساحة تعي أنه لا عودة للماضي، إن كان قريباً أو بعيداً. حل المسألة السورية قضية تخص الشعب السوري برمته. وحده يرسم أفق هذه الدولة. لقد طال جداً اغتصاب سوريا وزمن ظلمها وقهرها. الآتي لابد أن يكون مشهداً متغيراً وصعباً، له تداعيات، لكنه سيكون في أجل معين بداية دولة المواطنة والقانون.