لا يمكن مقارنة الثورة الإيرانية عام 1979 بغيرها من الثورات من حيث حجم المشاركة الشعبية فيها، ومن حيث المآل الذي آلت إليه. ففي تلك الثورة، يمكن القول إن جميع طبقات المجتمع الإيراني شاركت فيها، فكانت ثورة المجتمع ضد الدولة، لأن الدولة لم تمثل مجرد دكتاتورية عادية، بل نظامًا مطلقًا وتعسفيًا يفتقر إلى الشرعية السياسية وللقاعدة الاجتماعية في البلاد. ومن ناحية أخرى، أسست نموذجاً جديداً في عملية تشكيل وبناء الدول، فما بنته تلك الثورة من نمط حكم يعطي الحاكم الأعلى سلطات مطلقة مستمدة من نيابته للإمام الغائب، ومعتمداً على تأسيس كيانات جديدة، كيانات فوق الدولة، المعروفة بمؤسساتها التقليدية، وأقصد الحرس الثوري.
يقوم النظام الجديد بعد ثورة 1979 على نمط جديد من الحكم يتمحور حول ولاية الفقيه، المستمد من نيابة "الإمامة" وهي المفهوم العقيدي المحوري في العقيدة الشيعية، المعصومة عن الخطأ، وبالتالي يصبح "النائب" أيضا معصوماً عن الخطأ، مكرساً بذلك نموذجا لحكم مطلق جديد يخلط بين الأيديولوجية الشيعية والسياسة، نموذجاً سيجعل من معارضة هذا النظام والخلاص منه أمراً في غاية الصعوبة ويتطلب من الشعوب الإيرانية أثمانا باهظة. وأولى ركائز هذا النظام الجديد هو تأسيس كيانات جديدة غير تلك المعروفة في الدول عبر التاريخ، كيانات تتجاوز مؤسسات الدولة، ترتبط مباشرة بنائب الإمام على الأرض، وهو ما يمنحها سلطات مطلقة، خارجة عن القانون والمساءلة، وأقصد هنا الحرس الثوري.
أولى تجارب الحرس الثوري كانت في لبنان عام 1982، حيث لجأ في ظل تهافت "الدول" الهشة والفاشلة التي عجزت عن حماية حدودها، إلى تأسيس نواة عسكرية
لم يقتصر دور الحرس الثوري على تأسيس قوة عسكرية، وإن كانت هي المحورية التي سيعتمد عليها في باقي المجالات، بل امتد نشاطه ليصبح شركة تعاضدية متعددة المهام، من الأمن إلى الجيش والسياسة والاقتصاد وغيره، وقبل كل شيء، نشر "الثورة" في باقي المحيط الذي يعده النائب مجالاً طبيعياً لها، وتحديداً الدول العربية. وأولى تجارب الحرس الثوري كانت في لبنان عام 1982، حيث لجأ في ظل تهافت "الدول" الهشة والفاشلة التي عجزت عن حماية حدودها، إلى تأسيس نواة عسكرية "تدافع" عن لبنان ضد الغزو الإسرائيلي، التي ستتحول لاحقاً إلى قوة أشد عداوة وبطشاً من الإسرائيليين تجاه اللبنانيين، حيث أصبحت بفضل سياسة النظام الأسدي الميليشيا الوحيدة في لبنان، التي تتحكم في حياة ومصير اللبنانيين ولبنان، بعد أن أسست لها الحزب كغطاء، الذي سيلعب فيما بعد أقذر الأدوار في المنطقة وخاصة في سوريا بعد ثورة 2011.
بعد نجاح تجربة الحرس الثوري في لبنان، التي أسس فيه كياناً أقوى من "الدولة" اللبنانية الهشة، وأصبح "الدولة" الفعلية فيه، أعاد نفس السيناريو بعد عشرين عاماً في العراق وتحديداً بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، هذا الغزو الذي كان من أهدافه تفتيت الكيانات العربية، والذي سمح لنظام الولي الفقيه بالتمدد في العراق لدرجة تحوّل إلى القوة المهيمنة المتحكمة في العراق وحتى في بناه "الديمقراطية التي أرساها بريمر، بمعنى، حتى لو فاز أي طرف بالأغلبية، فلن يحكم -رغم كونه من الشيعة- ما لم يكن متوافقا وخاضعاً للولي. تكرس الوضع أكثر مع الربيع العربي والتداعيات التي رافقته، من خلال تأسيس فيالق الميليشيات الطائفية بمسمياتها المختلفة تحت لافتة الحشد الشعبي، الذي تحوّل بضغط من إيران إلى قوة نظامية تموّلها "الدولة" في العراق لتحقيق الأهداف التي يرسمها الحرس الثوري في العراق وخارجه، وخاصة في سوريا.
في سوريا، لم يكن نظام الحكم الأسدي بعيداً عن ذلك الحال، إذ شكل حالة ابتلاع ليس فقط لما يسمى "الدولة" وإنما حتى للمجتمع، وأعاد تشكيله وفق مقولة المواطن الشريف، أي المواطن المخبر، حيث كان تعامله مع الجميع على أنهم أعداء إلى أن يثبتوا ولاءهم، وكل ذلك بفضل الممارسة المتوحشة لقوات الأمن والجيش كونها صاحبة اليد العليا في البلاد، التي تسخر كل الموارد والإمكانات لصالح استمرارية الحكم الأسدي. بالطبع تلقت تلك البيئة كامل الدعم من الحرس الثوري الإيراني منذ اندلاع الثورة السورية، معززة الدور الذي تلعبه قوى السيطرة الحقيقية في سوريا من خلال مشاركة الميليشيات التي أسسها الحرس الثوري قديماً وحديثاً، بدءاً من حزب الله في لبنان إلى الميليشيات من أفغانستان وباكستان وغيرها من أصقاع الأرض.
ما نشهده في النموذج الإيراني والأسدي أن ما هو قائم كيان يعمل وفق المصطلح المستخدم بينهما وهو الضرورة الأمنية وتوجيهات ولي الفقيه
ما يميز الدولة أنها جهاز اعتباري يقوم على قوانين مستقلة عن التغيرات في أنظمة الحكم التي تتبدل وفق الآلية الديمقراطية، أما ما نشهده في النموذج الإيراني والأسدي أن ما هو قائم كيان يعمل وفق المصطلح المستخدم بينهما وهو الضرورة الأمنية وتوجيهات ولي الفقيه. وهذا يستدعي دراسة تركيبة أنماط الحكم هذه، التي تعتمد على كيانات ذات ميزات مفتوحة يمكن عدها النواة الصلبة، والتي اخترقت المجتمع وتمكنت من ابتلاعه وثم إخراجه بطريقة ساخرة كأرقام يخشى بعضهم بعضا، يلجؤون إلى تلك الكيانات خشية بطشها، إن ما جرى في سوريا ويجري اليوم في إيران يشير إلى الكلفة الباهظة التي ستدفعها البلاد والعباد للخلاص من أنماط الحكم، لدرجة يرتبط فيها سقوط تلك الكيانات بتدمير البلاد وساكنيها، وفي أحسن الأحوال تفتيتها، لكن رغم فداحة الثمن، فالناس مصممة على كنس هذا النمط الفريد من القهر.