مع بداية العقد الثاني لثورة الكرامة وعودة الحديث عن محاسبة السلطة المغتصبة للدولة لابد من التأكيد على أهمية تطبيق العدالة الانتقالية التي تشكل مفتاح الاستقرار وضمان السلم الأهلي والحصن المانع لعدم التكرار…
وللإضاءة على أهميتها في إعادة إعمار المجتمع وشفائه لابد من الوقوف على مفهومها ومعانيها
فالعدالة الانتقالية: مفهوم حقوقي وقانوني واجتماعي سياسي.
وهي بالتعريف مجموعة الإجراءات والتدابير القضائية وغير القضائية التي تتخذها الدول الخارجة حديثا من الصراعات والنزاعات الداخلية (ثورات - حروب أهلية)
لمعالجة الانتهاكات لحقوق الإنسان وكرامته خلال مرحلة النزاع ومحاولة إزالة آثارها لتحقيق حل قابل للحياة.
وينقسم هذا المصطلح إلى قسمين؛ الأول وهو العدالة وهي هدف كل مظلوم وكل صاحب حق في أن يحصل على حقه أو يقتص من الجاني بالمحاكمة العادلة وفقاً للقوانين التي أقرتها الشرائع والدساتير.
والثاني الانتقالية وهذا يعني الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى فبعد سنوات من النزاع وظهور بوادر الحل للمشكلة تبدأ مرحلة هي مرحلة الانتقال من الصراع والحرب إلى مرحلة الاستقرار وإعادة السلام.
إذاً مفهوم حقوقي يستند إلى حق كل شخص أو مجموعة بالعدالة والحصول على حقوقهم المعنوية والمادية .
قانوني تحميه الشرائع السماوية والأعراف الاجتماعية والقوانين الأممية لحقوق الإنسان والدساتير الوطنية.
واجتماعي لضرورته في صون السلم الأهلي وحماية المجتمع من الانقسامات، والانتقامات الثأرية. والابتعاد عن كل مايمكن أن يعيد إنتاج دوامة العنف، الذي عانى منه سابقا في مرحلة النزاع، وماتزال آثاره تنعكس على الأفراد والجماعات، وبالتالي على المجتمع كوحدة متكاملة.
وسياسي حيث لايمكن لأي حل سياسي أو تسوية أن تنجح دون تحقيق عدالة تعيد الاعتبار للضحايا وتشعرهم بالوقوف معهم وحقهم وأن كرامتهم الإنسانية مصونة وأن المجتمع بمؤسساته وأفراده يتعاطف معهم. حيث إن النزاعات الداخلية (ثورات - صراعات) لا تنتهي بـ معادلة غالب ومغلوب، بل تنتهي بمعادلة الكل خاسر وكيف ننهي الخسارة ونجعل منها درسا للمستقبل ولحماية وصون الوطن والمواطن وتعزيز المساواة و الديمقراطية.
وعلى ماسبق تتضح مدى أهميتها كضرورة لا يمكن تجاوزها وهي أساس في إعادة البناء الصحيح للمجتمع وهي الحد الذي يمكن تطبيقه لتحقيق العدالة ومن دونه لايمكن تجاوز الماضي، وإن أي خلل في تطبيقها يمكن أن يؤدي إلى تكرار المأساة وتعميق الشروخات التي أصابت أبناء الوطن الواحد.
وهي تطبق في حالات النزاعات الكبرى الداخلية، حيث لايمكن بل يستحيل محاكمة جميع المشاركين من جهة، ولا يمكن معاملة جميع من شارك بالنزاع على السوية نفسها ودرجة المسؤولية نفسها، ويدخل تحت هذا: من دافع عن نفسه لا يمكن مساواته بالمعتدي، من يتلقى الأوامر وينقذها لا يتساوى في المسؤولية الجنائية بالذي يقوم بإصدارها يصدرها ،ولايمكن أيضاً أن يتساوى كبار القادة مع من هم في أدنى سلسلة الأوامر.
و هي تقوم على عدة أسس:
أولها: معرفة الحقيقة (ماذا حدث)
وهنا يتم تشخيص القضية كاملة كيف بدأت وكيف تصاعدت وإلى أين وصلت ومن هم المسؤولون بالدرجة الأولى ومن هم بالدرجة الثانية وما إلى ذلك من تفاوت بالمسؤولية.
ثانيها: محاكمة المسؤولين (كبار المتهمين، القادة السياسيين، والعسكريين والأمنيين) والفاعلين من ميليشيات مسلحة وكل من حرض على العنف والقتل.
ثالثًا: جبر الضرر وهو تعويض معنوي ومادي للضحايا
مثال على ذلك بالنسبة للقتلى اعتبارهم شهداء مثلاً، تعويض مالي لأسرهم.
إعادة الاعتبار للمعتقلين وتعويضهم معنويا وماديا.
المصابون والجرحى ومنهم من أصبح لديه إعاقات جسدية لابد من حماية حقوقهم وتعويضهم وتقديرهم.
رابعا: التعويض عن الأضرار المادية والخسائر المالية جراء العمليات الحربية ونتيجة للصراع، حيث دمرت البيوت والأملاك والمعامل والمتاجر.
وكذلك من خسر عمله نتيجة لموقفه أو خشية على حياته وبخاصة المنشقين العسكريين والمدنيين.
خامسا: العدالة التصالحية وهي الاعتراف بالمسؤولية عما حدث والاعتذار عن الأعمال العدائية والارتكابات. لتحقيق المصالحة الاجتماعية الوطنية وتهيئة النفوس للسلام الأهلي على المستوى الوطني. وليس مع المجرمين والمدانين بل بين مكونات المجتمع التي بسبب النزاع أصبحت في اتجاهات متعددة وحسبت كأطراف، نتيجة الاستقطابات والتحريض والخوف.
سادسا لابد من مؤسسات قادرة على القيام بهذه العملية، حيث إن المؤسسات ذات الاختصاص في هذه القضية لاتكون عادة في حالات السلم والأحوال العادية، ناهيك عن الخراب والترهل في الهيئات القضائية والأجهزة الحكومية الأخرى من جهات التوثيق والإحصاءات والسجلات المدنية.
وغياب الكوادر الإدارية المؤهلة والخبرات في مجال التحقيق والقضاء في مثل هذه القضايا غير العادية ومنها الجرائم المصنفة كالجرائم ضد الإنسانية والتي تختلف في آلية وطرائق التثبت منها وربطها وإحكامها عن الجنايات العادية.
كما تحتاج لآلية خاصة لحماية الشهود وحفظ الأدلة والقرائن، وفِي هذا المجال يمكن الاستعانة بخبراء من الخارج ويمكن الاستعانة أيضا ببعض المنظمات والهيئات الحقوقية التي تعنى بمثل هذه القضايا وخاصة من الدول التي مرت بمايشبه هذه الظروف والنزاعات.
ومن المهم تشكيل هيئة وطنية للعدالة الانتقالية مؤلفة من قضاة ومحامين وحقوقيين مشهود بنزاهتهم وسياسيين ووجهاء مجتمع من الوطنيين المقبولين من الجميع.
وتوضع الأسس التشريعية والقانونية للعدالة الانتقالية من خلال الاتفاق السياسي الذي تتفق عليه الأطراف استناداً للإرادة المشتركة في الوصول لحل ينهي مرحلة النزاع ويمهد لمرحلة الحياة الطبيعية عبر مرحلة العدالة الانتقالية والتي تتزامن مع مرحلة انتقال سياسي توضع أسسه أيضاً في بنود الاتفاق.
ومن المهم معرفة أن هيئات العدالة الانتقالية لاتكون في الحالة الطبيعية للدول وتشريعاتها ليست موجودة بالدساتير ولا بالقوانين الناظمة للحياة العامة، فهي حالة طارئة تحتاج لقوانين خاصة وليس مكان مناقشتها في لجنة دستورية من خلال مبادى دستورية دائمة كما هي طبيعة القانون العام أو كما يطلق على الدستور أو القانون.
وهذا يكون بنص الاتفاق السياسي ويكلف هيئة الحكم الانتقالي أو الحكومة الانتقالية الصلاحيات اللازمة لإحداثها كهيئة مستقلة ومنحها الصلاحيات اللازمة والكافية لتحقيق الغاية من إنشائها وتمويلها ومنح أعضائها الحصانات كي يتمكنوا من القيام بمهامهم دون عوائق. أو من خلال إعلان دستوري مؤقت يتضمن بنصه إنشاء هيئة للعدالة الانتقالية، ويمنح التفويض للبرلمان الانتقالي بتشكيلها.
وأخيرا تحقيق العدالة واجب أخلاقي وحق مصون وقضية مهمة جداً لتعزيز السلم الأهلي والعيش المشترك بين أبناء الوطن الواحد ويسهم بالحفاظ على وحدة البلاد وصيانة استقلالها وسيادتها، ويمهد للبيئة المناسبة للتنمية وإعادة الإعمار الشاملة، على المستوى النفسي الاجتماعي والثقافي والتعليمي والاقتصادي والسياسي والعمراني بما في ذلك البنية التحتية المدمرة.