قبل بضعة آلاف عام، ضاق الحكيم ذرعاً بحروب اجتاحت بلاده، فجلس إلى حافّة نهر، ودلدل رجليه في مياه النهر الجارية. وإذ به يلاحظ أن الماء الجاري لا يعود هو ذاته، مرّتين.. فأطلق حكمته الشهيرة: (إنّك لا تستحمّ في مياه النهر مرتين).
والحقيقة أنّ الأمر لم يقف عند كونها زفرة عابرة، إذ تناولها الفلاسفة فيما بعد، كفكرة مركزيّة اشتقّوا منها أفكارا تتعلّق بـ: الزمان والمكان والحركة. ولتقريب الفكرة حول الحركة بالذّات: فلنفترض أن الماء الجاري هو مجموعة (قطرات) مرئيّة ومتتابعة..
- فما الذي يدفع قطرات الماء إلى الحركة؟
قيل: تنتج الحركة من علاقة كل قطرة مع جاراتها.
- وما طبيعة هذه العلاقة بين قطرات الماء؟
قيل: إنّ الحركة منبعثة عن الصِّراع بين قطرات الماء.
وعن اتّجاه الحركة قيل: إنّه نحو الأمام.
واستمرت فرضيّة الصراع أو "الديالكتيك" تصوّراً تُناقش من خلاله العلوم ضمن حقلين منفصلين: حقل للعلوم الإنسانيّة الاجتماعيّة، وآخر للعلوم الطبيعيّة الماديّة.
حتى جاء العصر الحديث، فاندمجت الفلسفة وغيرها من العلوم الإنسانيّة مع العلوم الطبيعيّة فيما يُعرف بـ (وحدة العلوم). وقفز الصراع من تصوّر عن علاقة المواد بعضها ببعض، إلى حتميّة تاريخيّة تفسّر تطور الإنسان من جيل إلى جيل، أو من طبقة إلى طبقة، أو من حقبة تاريخيّة إلى أخرى.
إلى أين تمضي مياه النهر؟
إنها تمضي قُدما وإلى الأمام. وهكذا نشأت مفاهيم مثل التّقدّم والتخلّف، إلا أن الحركة إلى الأمام دائماً ما كانت تحتاج إلى مزيدٍ من الطّاقة.
وفي هذا المناخ برز مفهوم حديث عن الاستقلال، والسّيادة، بالنسبة إلى الفرد، والدّولة. إذ لا يكاد يعثر المرء في الثّقافات القديمة على قضيّة قوميّة، أو على قضايا متعلّقة بالمرأة كهويّة منفصلة، ولا عن صراع الأجيال، أو طبقات المجتمع.. إلا من خلال وعي العصر الحديث، الذي أعاد قراءة التاريخ، والطبيعة، وأعاد إنتاج الهويّات والقضايا الجديدة.
بالمقابل، لا يكاد يعثر الباحث في الشعر الحديث عن قصيدة تصف معاناة الفلّاحين مع الشّوك في أثناء حصاد محاصيلهم، اللهمّ إلا مجازا، وذلك لأن تطور العلوم المادّيّة أنتج الآلة التي مكّنت الإنسان من التغلّب على كثير من معاناته.
إلى أين تمضي الحضارة؟
تاريخيّاً فإن الحقبة الامبراطوريّة نشأت وازدهرت في العصر الوسيط، وانحلّت، نتيجة عوامل موضوعيّة، مع بداية العصر الحديث، ثمّ تجاوز العالم العصر الحديث بحربين عالميتين كبيرتين، ومريرتين، وكان للآلة القول الفصل في أكثر المعارك. فراجع العالم المقولات الحداثيّة الكبرى، وحاول ضبط إيقاع الحضارة من خلال إنشاء جسد عالمي سيُسمّى "الأمم المتّحدة" للدخول إلى حقبة حضاريّة حاليّة تُسمّى ما بعد الحداثة.
الصراع، طالما ولّد الحركة إلى الأمام، حيث لم تخبُ الرّغبة بالتّقدّم يوماً، إلا أنّ التعبير عن تلك الرّغبة سيتغيّر من نمط الحرب الساخنة - كما في الحربين العالميّتن- إلى حرب باردة تلعب الدّول العظمى خلالها لعبة اسمها: التّوازنات. هذا شرق سوفييتي شيوعي، وهذا غرب ليبرالي أميركي، حتى انهيار النّموذج الشرقي، فاستفردت أميركا بزعامة العالم، أو كما تصف الأنظمة السياسيّة، ومثقّفيها المتباكين على الحقبة السوفييتيّة.
طالما تم تقديم العالم بهذا الشكل: عالم متقدّم، وآخر متخلّف، واتجاه الحضارة دائماً كان نحو الأمام. لكن قد تحدث بعض الإحباطات لدى بعض الحركات، أو الأنظمة المتخلّفة والعاجزة عن المنافسة، فتقرّر هذه الحركات، أو الأنظمة الرجوع إلى الخلف طوعاً. خاصّة إذا كان الماضي يُمثّل لها نموذجاً مغرياً، وكانت استعادته أكثر سهولة من بلوغ المستقبل الغامض.
وهنا يحسن بنا الإشارة ليس إلى رغبة بوتين، وحده، في استرجاع الماضي، وليس إلى نموذج داعش بمفرده.
بوتين كان قد عبّر، غير مرّة، خلال السنوات الماضية، عن عدم اندماجه مع الحضارة، ولعل إحدى تلك الإشارات تمثّل في تصريحه عن رغبة روسيا بإنشاء نظام دفق معلوماتي خاص بروسيا، ومنفصل عن الشبكة العنكبوتيّة العالميّة، ثم إغلاقه لمواقع الشّبكة العنكبوتيّة، في روسيا، مع بدء حربها على أوكرانيا.
إلى جانب تطوّر الآلة الذي رافق القيم الحداثيّة، وظل مستمرّا حتّى الآن، فإنّ تطوّرا آخر سيحدث، وهو التطور الإلكتروني، وثورة المعلوماتيّة التي سهّلت التواصل المباشر بين كل ساكني الشبكة العنكبوتيّة، بمختلف الأعراق والمعتقدات، وقدّم هذا التطوّر، بدوره، طرحاً جديدا عن الهويّات لعلّه بات يبدو أكثر واقعيّة من الطرح الحداثي.
فقد لا نكون مبالغين إذا ما زعمنا: أن الرّابطة المشتركة بين روّاد موقع إلكتروني كـ "فيس بوك" أو "تيك توك" أو "يوتيوب" وغير ذلك، يمكن دراستها كروابط حقيقيّة، عابرة للجغرافيا، وتبدو أكثر واقعيّة من الانتماء الإثني، الذي أثبت علم الجينات الوراثيّة عدم دقّته، فقضى على أهم أعمدة النظام القومي!.
لكن هل هذا النّموذج العولمي بريء من نمذجته لصالح قوة عظمى بذاتها؟
في مؤلّفه: "المراقبة والمعاقبة"، حاول "ميشيل فوكو" الكشف عن نُظم مراقبة أخرى، غير تلك الممارسات الواضحة التي تسلكها الأنظمة الشّموليّة، إذ يمكن لهذه النّظم المكتشفة أن تتحكّم بمزاج المراقَبين، بحيث تؤثّر على إرادتهم، وتُخضعهم ذاتيّاً. ولعل الإشاعة حول التدخّل الروسي في الانتخابات الأميركيّة التي صعّدت دونالد ترامب، والكلام المستمر حول أهميّة سريّة بيانات العملاء في الشبكة العنكبوتيّة، يشير إلى مثل هذه النظم التي ذكرها فوكو..
العالم إلى أين؟
في إطار العقوبات الأميركيّة على روسيا، بسبب غزو الأخيرة على أوكرانيا، فقد صرّح الرئيس الأميركي بايدن، مؤخّرا، بحظر استيراد النفط الرّوسي، وبأنّ بلاده ستعتمد على المخزون الاحتياطي للنفط، ودعا شركاءه الأوروبيين إلى: (استراتيجيا طويلة الأمد، تمكّن الأوروبيون من تقليل اعتمادهم على مصادر الطّاقة الروسيّة).
ويبدو أن توجّه الإدارة الأميركيّة ليس وليد اللحظة، فقد سبق وصرّح بايدن بمثل ذلك، قبل أشهر قليلة، في أثناء احتدام الموقف بين إيران وأميركا، والحديث عن احتماليّة نشوب حرب في الخليج العربي قد تتسبّب في قطع إمدادات النفط. إضافة إلى أنّ البُعد السياسي للتصريحات الأميركيّة حول أزمة المناخ، يتضمّن الدعوة إلى الاستغناء عن مصادر الطاقة التقليديّة، سواء أكانت تلك الطّاقة من روسيا أو من غير روسيا. وذلك، لو كان صحيحاً، فهو لن يؤثّر على الدول المستهلكة للطاقة التّقليديّة فحسب، بل لعلّ الأثر الأكبر له سيكون على الدّول التي يعتمد اقتصادها، بل وأمنها القومي، على تصدير هذه الطّاقة، وروسيا على رأس تلك الدّول.
وفي هذا الإطار، ربّما، يمكننا فهم موقف دول نفطيّة أخرى كدول الخليج العربي، غير المنسجم تماماً، كما جرت العادة، مع الموقف الأميركي، من الحرب في أوكرانيا.
من السذاجة اعتبار أنّ الدّعوة الأميركيّة إلى الطّاقة النظيفة دعوة محض إنسانيّة، غايتها التخفيف من حدّة المناخ، أو أن أميركا ستتخلّى عن الطّاقة التي ارتبطت تاريخيّا بموضوع السيادة، وبمعركتها مع النمو الصيني المضطرد، إلا إن كان لدى أميركا خطّة جديدة تضمن استمرار تفوّقها.
إن لم تستخدم دولة ما، عاجزة عن التّنافس، السلاح النّووي- لا قدّر الله- فقيل إنّ من يملك الإعلام، ومصادر المياه، سوف يسيطر على العالم.
لكنّ أخطر ما قيل عن الماء الجاري، أنّه قطرات متصارعة، ومعارك محتدمة، في الوقت الذي يشكّل الماء نحو 60% من جسم الإنسان!
والله أعلم.