في بدايات عام 2013 كان قد مرّ عليّ عام أو يزيد دون أنْ أعرف شيئاً عن أخبار أهلي في مدينة الميادين في ديرالزور، وذلك بعد أنْ قطَع النظام شبكات المحمول والهاتف الأرضي عن المحافظة، مع الصعوبة البالغة في التحرُّك من المناطق المحررة شمال سوريا في حلب حيث أقطُن، إلى دير الزور في الشرق السوري والتي كانت تتتَابع أخبار تحرير مدنها وبلداتها اعتباراً من أواسط عام 2012، خاصّة مع وجود محافظة الرقة بين المحافظتين، والتي كان النظام ما يزال محكماً سيطرته على معظم أجزائها.
لذلك كانت الوسيلة الوحيدة بالنسبة إليّ -ككثير من أبناء المحافظة خارجها- للاطمئنان على أهلي هناك، هي تصفّح صفحات التنسيقيات الثورية، وشبكات الإعلام المحلي التي أسسها ثوار الدير على موقع "فيسبوك"، والتي اعتادَت نشر قائمة أسماء شهداء المحافظة يومياً، فكنتُ أحمد الله على سلامتهم إذا لم يرِد اسم أحدهم في تلك القوائم المُتجدِّدَة يومياً.
لكنّ المشكلة في وسيلة الاطمئنان هذه كانت عدم دقّتها أحياناً كثيرة، فكان شائعاً نشرُ خبر استشهاد أحدهم، قبل أنْ تعود الصفحة التي نشرَت الخبر بعد يومين أو ثلاثة لنفي الخبر والاعتذار عنه، وهو الخطأ الذي وقعتُ ضحيّتَه غير مرة! كان أولها أثناء معارك تحرير مدينة حلب في تموز \ يوليو 2012، عندما اتّصل بي أحد أقربائي المقيمين خارج سوريا معزّياً إيّاي بأخي "ياسر"، الذي كان قد ترك مع بدايات العام جامعته في دمشق للالتحاق ببواكير مجموعات الجيش الحر في ديرالزور، حيث أخبرني أنه فُقِدَ أثناء اشتباك داخل مدينة الميادين قرب مبنى السرايا، وأنه غالباً شهيد أو بحكمه؛ "يعني أسير".
كان عليّ أنْ أبكي أخي الذي يصغُرُني بعام ونصف شهيداً يوماً وبعض اليوم، قبل أن يتّصل قريبي مرّة أخرى مطمئناً إيّاي بأنّ خبر استشهاده غير صحيح، وأنّ أخي مع مجموعته بأمان في مقرهم في إحدى قرى ريف ديرالزور الشرقي.
كان عليّ أنْ أبكي أخي الذي يصغُرُني بعام ونصف شهيداً يوماً وبعض اليوم، قبل أن يتّصل قريبي مرّة أخرى مطمئناً إيّاي بأنّ خبر استشهاده غير صحيح
بعدها بأشهر في تشرين الأول \ أكتوبر نشرَت صفحة إحدى تنسيقيات الدير خبر استشهاد "الإعلامي ياسر الحاج"، أثناء معركة تحرير حاجز الحلبية على مشارف مدينة ديرالزور، التي كان الثوار قد أطلقوها لفكّ الحصار عن أحياء المدينة المُحَرّرة، والتي كثُرَت بين صفوف الثوار فيها الإصابات دون قدرةٍ على إسعاف معظمهم.
وليومين تقريباً حاولْتُ جاهداً التواصل مع أهلي لمواساتهم، عبر اتصالات شملَت أقربائي المغتربين في أكثر من ثلاث دول حول العالم، لأُوَفَّق أخيراً بالتواصل مع قريب زفّ ليَ البشرى بأنّ ياسر مصاب! وأن وضعه الآن مستقر، وتحت إصراري قام رفيق سلاح أخي وابن خالي بتصويره.
عاريَ الصدر إلا من ضمادٍ لفّ جرحه، والذي يبدو أنّ مصحفاً كان يحمله في جعبته حرَفَ طريق الرصاصة عن قلبه قليلاً إلى الأسفل منقذاً حياته، خاطبَ ياسر الكاميرا بكلماتٍ كانت تخرج ثقيلة جداً منه، لتنزل بلسماً على مَن ظنّ أنه قد فارق الدنيا قبلها بأيام:
"أنا ياسر الحاج.. لواء الأمة.. كتيبة المهام الخاصة.. الحمد لله أتمنى الدعاء.. تاريخ اليوم 10-10-2012"
(إصابة ياسر الحاج خلال معارك حاجز الحلبية في ديرالزور – 10 تشرين الأول 2012)
جاء القرار في اللحظة التي شاهدتُ فيها الفيديو: "عليّ أنْ أذهب إلى ديرالزور"، وهكذا على مدار الشهور التالية، وبعد تأمين تواصل دائم مع كتيبة أخي، تمكنتُ أخيراً بمساعدتهم في بدايات آذار \ مارس 2013، من معرفة طريق آمن إلى المدينة المُحَرّرة، انطلاقاً من معبر تل أبيض على الحدود السورية التركية شمال محافظة الرقة.
إلى دير الزور المُحَرّرَة
منذ أواخر عام 2012 بات كثير من أهالي الشمال السوري يعرِفون الطريق إلى داخل تركيا، حيث كانت الحدود آنذاك مفتوحة أمام السوريين ممّن يمتلكون جوازات السفر، وحتى أمام أولئك الذين لا يمتلكونها عبر المعابر الإنسانية وغير الرسمية، أو عبر طرق التهريب المتعدّدة التي سلكَها السوريون خروجاً كما كان الكثير من "المهاجرين" والصحفيين يسلكونها دخولاً، خاصة وأنّ حوادث إطلاق الرصاص من قبل حرس الحدود على عابريها لم تكن قد بدأَت بعد.
أما "شلّتنا" فكانت محظوظة بوجود "يوسف" (أحد ثوار حلب من أبناء طيبة الإمام في ريف حماة)، بسبب قدرته على تسهيل دخولنا إلى تركيا عبر المعبر الإنساني في أطمة شمالي محافظة إدلب، والذي عبرناه ثلاثتنا، أنا ويوسف وأبو عروة (أحد ثوار حلب من بلدة يوسف نفسها في حماة) باتجاه مدينة أنطاكيا في تركيا، ومنها بحافلة نقل إلى مدينة أورفة، ثم بسيارة أجرة يقودها أحد النازحين السوريين إلى معبر تل أبيض الحدودي الذي وصلناه ليلاً.
كان الثوار قد حرروا معبر ومدينة تل أبيض منذ أيلول\سبتمبر عام 2012، حيث تولّت كتائب الفاروق إدارته، والتي أمّنَت لنا تواصلاً مع جندي تركي يتحدث العربية لإدخالنا إلى الطرف السوري، استقبلنا الجندي التركي عند البوابة، وتحرّك معنا مشياً على الأقدام على امتداد الطرف التركي من المعبر، والذي كان خالياً إلا من جنود أتراك هنا وهناك، حتى وصلنا إلى البوابة التي تفصل تركيا عن سوريا، والتي كان يُفترَضُ أنْ ينتظرنا عندها أحد أعضاء كتيبة أخي قادماً من دير الزور ليُقِلّنا، لكنّ المفاجأة كانت أنّ الواقفَ على الطرف الآخر للبوابة الحديديّة قبالتنا هو "ياسر" نفسه!
كان علينا أنْ نعبر البوابة تسلُّقاً مع الجندي التركي، لأعانق أخي -أخيراً- بعد أكثر من عامين على لقائنا الأخير قبل انطلاق الثورة السورية، واستطعتُ أن أحسّ بأثر الإصابة عليه مع نحول جسده الشديد.
تحرّكنا مع أخي وزميله في الكتيبة "عبد الله" الذي قدم معه من دير الزور إلى مضافةٍ للجيش الحر على أطراف تل أبيض قضينا فيها ليلتنا، لننطلق في الصباح الباكر مع ياسر وزميله مستقِلّين سيارة دفع رباعي لكتيبتهم باتجاه دير الزور، وذلك عبر طريقٍ بعض أجزائه ترابيّة ضمن بادية الجزيرة، وكان لافتاً بالنسبة لنا -نحن القادمين من حلب- اختلاف الجوّ بين ثورتي الشرق والشمال، بدءاً من الأغاني التي كان عبد الله يضعها على "مسجّل" السيارة، التي انتمى بعضها من فترة المقاومة العراقية للاحتلال الأمريكي، بينما كان بعضها الآخر من أغاني الثورة السورية مثل هتافات "قاشوش" حماة وأغاني الساروت ووصفي معصراني وسميح شقير، أما أكثرها فأغانٍ لمطربين محلِّيِّين أنتجوها دعماً للثورة والجيش الحر، والتي لم تنتشر كثيراً خارج حدود الشرق السوري. لكنّ الأغنية الأكثر تكراراً في رحلتنا هي تلك التي سمّاها عبدالله "النشيد الوطني لدير الزور"، رغم أنّ مؤدّيها من أبناء درعا، وكلماتها مأخوذة أساساً من أغنية عراقية أُنتِجَت إبّان الحرب العراقية الإيرانية، والتي يقول مطلعها "يا كاع ترابج كافوري".
لكنّ الأغنية الأكثر تكراراً في رحلتنا هي تلك التي سمّاها عبد الله "النشيد الوطني لدير الزور"، رغم أنّ مؤدّيها من أبناء درعا، وكلماتها مأخوذة أساساً من أغنية عراقية أُنتِجَت إبّان الحرب العراقية الإيرانية، والتي يقول مطلعها "يا كاع ترابج كافوري".
أمّا أبرز مظاهر اختلاف الجوّ علينا فهو الامتداد الشاسع للبادية حولنا، والتي لم يكن يكسر رتابتها إلّا "حرّاقات" النفط بأعمدة الدخان المتصاعدة منها، والتي أنشأَ أهالي المنطقة العشرات منها لفرز النفط المتواجد بوفرة في الشرق بطرق بدائيّة، قبل نقله عبر أساطيل من "الصهاريج" إلى مختلف نواحي البلاد للاستخدام المحلي، والتي كانت تترك آثارها على الطرق ببقع النفط، كحال الطريق تحتَنا الذي كانت تتأرجح فيه السيارة كأنّنا نتزلّج على الجليد، مع ترديد عبد الله وياسر كلمات "النشيد الوطني الديريّ" نفسه معدّلةً لتتناسب مع الموقف:
"على بير الشعَفَة تعنّينا.. عبّينا الصهريج وجينا.. ومشّونا بساع.. إي والله.. تزلِّق هالكَاع"!
يتبع..