أريد أنخاك يا حمد حنّشْ يا يابا |
آني والنبي ليكم گرابة |
أريد أنخاك يا سبْعٍ بغابة |
واصيح بصوت وادركني بساع |
*(حمد حنّشْ: ولي صوفي. بساع: بسرعة)
على تخوم الذاكرة البعيدة، يرتفع صوت الشيخ الرخيم، طالبا المدد والعون من وليه الأكبر الذي تجمعه به صلة الدم والنسب، يحدث هذا في الموالد وحفلات الإنشاد والذكر، حين يصحب الناس إليه مرضاهم الميؤوس من شفائهم، رجاء أن يعالج أرواحهم المتعبة، أو أجسادهم التي أضناها المرض، ويتكرر في الأعياد حين تأتي الوفود بأعلامها وراياتها، لأداء واجب زيارة قبر الولي الأكبر، الواقع على تلة مطلة على شاطئ الفرات، حيث يصدح الشيخ بابتهالاته، فترتفع حمى الوجد بين المريدين الذين يشمرون عن البطون، ويضربونها بالسيوف.
في زمن أقدم، كان المريدون يصعدون إلى قمة جبل عارودة، حيث مقام القطب الأكبر الذي أعطى الجبل اسمه أو العكس، لكن الاحتفال السنوي الذي كان يجري في الأربعاء الثاني من نيسان اختفى، بعد أن جرفته حركة الزمن إلى هاوية النسيان، ولم يعد لدى المريدين الجدد ذلك الشوق أو الحماس، الذي يدفعهم لتحمل مشقة الصعود إلى القمة الشاهقة.
تلك الاحتفالات والزيارات ربما كانت من الطقوس المكرورة في حياة الريف السوري في النصف الأول من القرن الماضي، ولكنْ، تراجع زخمها وحضورها في الحياة الاجتماعية، حتى كادت أن تختفي كليا في وقت قريب من نهاية القرن المنصرم.
هذا المسار التراجعي بدأ منذ انهيار الدولة العثمانية، فقد انتهت الوظيفة السياسية للطرق الصوفية مع نهاية الدولة العثمانية تقريبا، فعلى خلاف الدولة العباسية التي كان الاعتزال مشروعها الفكري، فإن الحامل الإيديولوجي أو المشروع الفكري للدولة العثمانية كان الغنوص، وتكريس العقل المستقيل في المجال العام، بمعنى ما فإن الطرق الصوفية فقدت بعد الحرب العالمية الأولى الدولة التي كانت تنافح عنها، وتشكل نموذجها المثال في عالم السياسة.
إنها خسارة تشبه إلى حد كبير ما سيحصل للأحزاب اليسارية بعد سقوط المعسكر الاشتراكي. لقد تحولت الصوفية بمساعدة الدولة العثمانية وحدبها عليها، من الحالة الطرقية إلى صوفية مجتمعية، فتجذرت في السلوك العام للمجتمع، وأصبحت الكوة التي ينظر منها الناس إلى العالم والكون المحيط بهم.
تتضح الخسارة التي منيت بها الطرق الصوفية أنه لم يتبن أي حزب سياسي ولا أي توجه فكري –بما في ذلك حركة الإخوان المسلمين-الصوفية منهجا
تبنت الدولة السورية إيديولوجيا مناقضة لإيديولوجيا الدولة العثمانية، إيديولوجيا أمينة على خطاب النهضة العربية، باتكائه على الموروث الأوروبي، وخصوصا سمتيه الأساسيتين: العقلانية والليبرالية، وسعيه إلى تمثل هذا الموروث في الساحة الفكرية والسياسية العربية. وتتضح الخسارة التي منيت بها الطرق الصوفية أنه لم يتبن أي حزب سياسي ولا أي توجه فكري –بما في ذلك حركة الإخوان المسلمين-الصوفية منهجا. كان من الواضح أن الخطاب الفكري الجديد بمشاربه المختلفة يشكل قطيعة مع الموروث الصوفي الذي قامت عليه الدولة العثمانية. ولهذا بدأ التصوف بشقيه الاجتماعي والطرقي بالضمور منذ ذلك الوقت.
بعد انقلاب حزب البعث وتسلمه السلطة، نشأ تحالف بينه وبين زعماء الطرق الصوفية، وخصوصا في مدينتي دمشق وحلب، فهاتان هما المدينتان اللتان تركز فيهما زعماء الطرق الصوفية منذ العهد العثماني، واللتان تضمان أكثر عدد من الزوايا الصوفية، ولذلك كانتا تعنيان النظام من ناحية موقفهما الديني، على خلاف بقية المدن الأخرى التي تخضع العلاقة معها لاعتبارات طائفية وعشائرية وغيرها.
الصوفية منشغلة بتهذيب النفس، وبطقوس تبعد أصحابها عن تيار الحياة، وعن المجال العام، فهي تكرس في نفوس المريدين قطيعة مع العالم ومشكلاته، وعقلا مستقيلا منجذبا نحو عالم الغيب، بدلا من عالم الشهادة الفاني. وكان هذا التوجه مناسبا لسلطة يهمها احتكار السياسة والشأن العام، ولا ضير عندها من أن ينشغل المؤمنون بعوالمهم الداخلية، وأن ينظروا إلى ما يلحق بهم من عسف وظلم وقمع على أنه عقوبة على سيئات ارتكبوها، وأن عليهم لذلك أن ينقوا أنفسهم من دنس الشرور والآثام.
ولكن النظام التعليمي تكفل بإضعاف الصوفية على نحو متدرج، فقد أدى ارتفاع نسبة التعليم في الريف السوري إلى تراجع ملحوظ في أنشطة الطرق الصوفية كالزيارات والموالد وغيرها، وإلى عجزها المتسارع عن اجتذاب مريدين جدد، وكذلك تلاشت كثير من الطقوس الصوفية التي كانت حاضرة في الحياة الاجتماعية. ولهذا كلما أحرز العقل نصرا ما، كان في الوقت عينه هزيمة للصوفية، وكلما انتشر التعليم، حوصرت الطرق الصوفية وانزوت. ولم يكن هذا التراجع للخطاب الصوفي في الحياة العامة بعيدا عن الإنجازات التي حققها الفرد السوري على مستويات عدة، من أهمها تنامي الحالة الفردية، والابتعاد عن حالة القطيع التي تطلبها الحركات الصوفية من أتباعها، وازدياد الوعي الجمعي الناتج عن الاختراعات العلمية والكشوفات المعرفية، ودخول الآلة في حياة المجتمع، والذي أسفر عن انحسار النظرة الغنوصية إلى العالم، وتراجع حضور العقل المستقيل في الأرياف.
جاءت سنوات الثورة السورية لتطلق رصاصة الرحمة على فلول الصوفية الريفية
هذا الانحسار الحاد في أعداد المريدين أقلق "شيوخ السلطة"، فرأوا فيه خسارة لمواقعهم التقليدية، ولمكانتهم، ففي منتصف التسعينيات من القرن المنصرم، حذر محمد سعيد رمضان البوطي من انهيار الصوفية في درعا، وغلف تحذيره بصيغة مخابراتية يجيدها أمثاله جيدا، إذ قرع ناقوس خطر انتشار السلفية في المحافظة التي يعمل كثير من أبنائها في دول الخليج.
جاءت سنوات الثورة السورية لتطلق رصاصة الرحمة على فلول الصوفية الريفية، ففي ثورة تمركزت أساسا في الأرياف، سيكون من باب اليوتوبيا الإيمان بجدوى السلام والمحبة مع نظام مارس كل صنوف الوحشية والتدمير، ولذلك سيزول ما بقي للمنزع الصوفي من أثر ضئيل في نفوس بشر، رأوا آلة القمع الرهيبة للنظام تدمر عمرانا، وتشوه أطفالا صغارا، وتقتل مدنيين أبرياء، خرجوا يطالبون بأبسط متطلبات العيش الكريم. فقد أدى تحالف شيوخ الطرق الصوفية إلى وقوف هؤلاء مع النظام، أو على الحياد، وهو ما فُسِّر حتى من قبل مريديهم الريفيين على أنه وقوف مع النظام في حرب وجودية بالنسبة لهم، ليس فيها مكان للون الرمادي، الأمر الذي عنى كتابة الفصل الختامي في سفر الصوفية المجتمعية الطويل.
بعد أن انتهى حضور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في عام 2017م، حاول أتباع إحدى الطرق إحياء بعض طقوسهم، فنظموا زيارة لبقايا قبر "عقيل المنبجي"، أحد أهم الأولياء عند الفرق الصوفية، القبر الذي دمرته "داعش" في عام 2014م. كان المشهد فريدا في طرافته، لا من ناحية قلة عدد "المشتركين" في الزيارة الصوفية، والذين كانوا أغلبهم قد غادروا محطة الشباب منذ زمن بعيد، وإنما من ناحية التعليقات وألفاظ السخرية التي كان جمهور المارة الشباب يطلقها عليهم وعلى أعلامهم وراياتهم. يومها، بدا واضحا أن بجعة الصوفية كانت تؤدي رقصتها الأخيرة.