بالرغم مما كُتِب عن الاستبداد، قديمًا، وحديثًا، إلا أن هذا النهج في الحكم والإدارة، بكليَّته، وشمول آثاره، وبخلفيَّاته في الحاكم المتورّط فيه، وفي الشعب الذي يستنيم عليه، أو لا يتصرّف إزاءه التصرُّف اللازم والمفترَض، هذا النهج لا يزال يستدعي أسئلة راهنة؛ كيف أمكن له أن يستوطن بلادنا؟ وكيف أمكن لنا تقبُّلُه؟
ولأن متطلبات الإحاطة بالاستبداد، بوصفه ظاهرة سياسية قديمة وحديثة، واسعةٌ ومتعدِّدة، وهو ما لا يتسع له هذا المقال، قد يكون من الأفيد التركيز على الحدِّ الأدنى مما يلزم؛ لإلقاء بعض الضَّوْء عليه، في سياقه العربي والإسلامي.
عن مفهوم الاستبداد:
الاستبداد، لغةً، هو مصدر الفِعْل " استبَدّ"، وهو من الفعل الثلاثيِّ " بَدَد"، والاستبداد هو الاستئثار بالشيء، والانفراد به، دون غيره، جاء في "لسان العرب" لابن منظور:" يقال استبدَّ به استبدادًا، إذا انفرد به، دون غيره، واستبدَّ برأيه: انفرد به". وغير بعيدٍ عن هذه المعاني ما وردَ في "معجم اللغة العربية المعاصر لـ" أحمد مختار عمر" الذي أورد معاني التعسُّف، والتحكُّم، والسُّلْطة المطلقة، وفرْض الإرادة، من دون مبرِّر؛ تبعًا للرغبات والأهواء.
و"الاستبداد" من المادة اللغوية "بَدَد"، وهي لمعنى التفرُّق، جاء في "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية": "البَدَد: التفريق والتَّوْزيع (...) بدَّدَ الأشخاصَ وغيرَهم، فرَّقهم، وشتَّتهم".
ولعلَّ من المفارقة اللغوية، والواقعية أيضًا، أنْ يكون الاستبداد مُفْضِيًا إلى التفرُّق؛ وهذا التفرُّق الناجم عن الاستبداد هو عكس ما تعنيه كلمة شَعْب، وجمعها شُعوب، وهي هنا من معنى التجمُّع، جاء في لسان العرب " تَقُولُ: الْتَأَمَ شَعْبُهُمْ، إِذَا اجْتَمَعُوا بَعْدَ التَّفَرُّقِ، (...) وَالشَّعْبُ: الْقَبِيلَةُ الْعَظِيمَةُ، وَقِيلَ: الْحَيُّ الْعَظِيمُ يَتَشَعَّبُ مِنَ الْقَبِيلَةِ، وَقِيلَ: هُوَ الْقَبِيلَةُ نَفْسُهَا وَالْجَمْعُ شُعُوبٌ. وَالشَّعْبُ: أَبُو الْقَبَائِلِ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ أَيْ يَجْمَعُهُمْ وَيَضُمُّهُمْ. وَفِي التَّنْزِيلِ: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا".
تجليَّاته وخلفيَّاته:
والاستبداد مَظِنَّة الرأي الخطأ، بل هو طريق إليه، فـ "مَن استبدّ برأيه زلّ، ومِن الحزمِ أنْ تشاور في الأمــر فكم فاتَ ذا صوابٍ صوابُه" من "كتاب الصبر مطيَّة النجاح - ابن الظهير الإربلي". فالاستبداد بما هو تعسُّف وانفراد بالقرار، يلازمه التعالي، الذي لا يتقبّل النقد أو التصويب. والمستبدّ بادِّعائه القدرات الخارقة، والرؤى الاستشرافية، والأهداف الإنقاذية، لا بدّ سيرى إلى كلِّ معارِض على أنه مشروع تهديد لتلك الطموحات التي يسوِّقها عن الوطن والمواطن، وهذا المهدِّد هو عدوٌّ داخليّ، لا يقلُّ عن الخارجيّ، وليس له إلا القمع، وأمَا أنَّ هذا المواطن الطامح إلى المشاركة هو في نظر الحاكم المستبدّ مشروع منازع على النفوذ والمصالح التي استحوذ عليها؛ فليس له إلا الإقصاء، بالتخوين، أو بالتجهيل والتسفيه.
والسؤال المركزي في هذه المقالة هو كيف تقبَّلت الشعوب العربية الاستبداد، على ما فيه من تغييب لها، واستئثار للحاكم، أو لفئةٍ منتفعة معه، بالحكم والقرار، استئثارًا، إقصائيًّا ومتعسِّفًا؟
من المؤكَّد أن هذه الحالة لم تحدث في يوم وليلة، إنما هي نتيجة قرون من أنماط السلطة، أورثتها تقاليد الرضوخ والتدجين.
من المعلوم، ابتداءً أنه لا بدّ من الاجتماع البشري، فهو ضرورة، على حدّ تعبير ابن خلدون، وهو ما يذكِّرنا بنظرية الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679) عن "حالة الطبيعة" السابقة لتكوين المجتمعات: أنَّ الحياة الإنسانية في "الحالة الطبيعية"، أيْ عند غياب النظام السياسي والقانون، ستكون منعزلة وفقيرة ومقرفة وبهيمية وقصيرة. وسيكون الكلُّ في حربٍ مع الكلّ. لكن هوبز انتهى؛ (لكي يصون ذلك الاجتماع الإنساني، الضروري لمنع الفوضى)، إلى الإقرار بسلطة مطلقة، لا تخضع، بعد أن تنال التفويض، لأيّ تدخل، أو رقابة على قراراتها، من الشعب، أو من المجتمع.
غير أنّ هذه "الضرورة" عند ابن خلدون، مشروطة بسُلْطة حاكمة، إمَّا أنْ تُبقِي في الناس صفاتِهم الأصلية، وهي الاعتداد والشجاعة والمبادرة إلى المشاركة في القرار، في حال كانت عادلة رفيقة، وإمَّا أنْ تقتل فيهم تلك الصفات، وتُحِيلهم أشبه بالعبيد، قال صاحبُ "المقدِّمة":" وأمَّا إذا كانت المَلَكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتَكْسِر، حينئذ، من سَوْرة بأسهم، [الناس] وتذهِب المَنَعة عنهم؛ لما يكون من التكاسُل في النفوس المضطَهدة". ثم هو يتفطَّن إلى الفرق بين السلطة الغاشمة التي تتمحَّض فيها الدولة لتكون مجرَّد سلطة، تجعل سيفها مُسْلَطًا دومًا، فوق رؤوس شعبها، وبين الدولة الراعية والعادلة، حين يقول: "وأمَّا إذا كانت الأحكام بالعقاب فمُذهِبةٌ للبأس بالكليَّة؛ لأن وقوع العقاب به- ولم يدافع عن نفسه- يُكسِبه المذلَّة التي تكسر من سِوْرة بأسه، بلا شكّ".
والناظر في التاريخ الإسلامي يجد أن أَنَفة الناس لم تفارقهم، في البداية، وأنَّ الحكَّام لم يعمَدوا إلى تدجينهم، بالرغم من قوَّة شخصية الحُكْم والحكَّام، فلم يعمد الخلفاء، كأبي بكر وعمر، مثلًا، (وذلك قبل أن تحدث الفتنة) إلى خفض تلك الشكيمة التي كانت تتبدّى، أحيانًا، في محاسبة سليطة اللغة والتعبير.
في الفقه الإسلامي، الحاكم يتولَّى الحكم، وَفْق عقْدِ رِضا واختيار، وهو ما عُبِّر عنه بالبيعة، وهو لا يتولّى سلطة مطلقة، بل خاضعة للمساءلة، (وهذا يتقاطع مع نظرية العقد الاجتماعي التي أصَّل لها جان جاك روسو، (1762)، الذي آمن بأنَّ "الحكم الذاتي" هو الطريق الأمثل لضمان الرفاهية، مع إبقاء الحرية الفردية خاضعة لحكم القانون)، وإن اختلفت طرائق التعبير عن تلك البيعة، وإن تفاوتت درجات الامتثال لها؛ بوصفها أداةَ الوصول إلى الحكم، والمؤشِّر الكاشف عن توجّه الناس، أو غالبيَّتهم، تاريخيًّا، من صفة تمثيلية، في الممارسة العملية، لكن هذه الركيزة الأساسية في شرعية الحاكم لم يَجْرِ الالتزام بها، بلا أيّ اعتبارات أخرى مزاحِمة، أو منتقِصة منها، كما أظهر تعاطي فقهاء مع ما عُرِف بالسلطان المُتَغَلِّب، وهو الذي لم يَحُز السلطة بالبيعة والرضا، قال ابن حجر العسقلاني في كتابه" فتح الباري بشرح صحيح البخاري": "أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلِّب والجهاد معه، وأنَّ طاعته خيرٌ من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء". ولسنا في وارد مناقشة فقهية لهذا الرأي، الذي وُجِد من يخالفه، ولكنه أورث، ولو بشكل غير مباشر، في جمهرة واسعةٍ من الناس تغليبَ (الاستقرار) على الحق؛ دون العمل الجِدِّي على إصلاح هذا الخلل الكبير المؤثِّر بلا شكّ على الاستقرار، والمتمثِّل في إقصاء رضا الناس، أو الأمة، أو الشعب، كما أفضى، تاريخيًّا، وحتى الآن، إلى تمادي الحكّام المتغلِّبين في هذا المسار.
الاستبداد راهنًا:
وإذا انتقلنا إلى واقعنا السياسي، وعلاقة النُّظُم الحاكمة بالشعوب، فإننا نشهد مرحلة البداية مع خروج الاستعمار العسكري، وقيام الدولة الوطنية، أو القُطْرية، وقد عَرفت البلاد العربية، كمصر خلال الحكم الملكي، حالة، ولو محدودة من الحياة السياسية، ولكن صيرورة بلادٍ عربية تحت حكم العسكر، والتي دشَّنتها انقلاباتٌ عسكرية، سُمِّيت ثورات، تمخَّضت عن تضخُّم واضح، وتكريس لموقع الرئيس القائد، المخلِّص والمنقذ، وليس المجال هنا محاكمة مرحلة هذا النمط من الحكم، ولكن التأكيد على أن تلك السياسات والشعارات كانت، بشكل، أو بآخر، ذريعةً لمقادير من الاستبداد والتفرُّد بالقرار؛ إذ ارتبط الاستقرار، داخليًّا، بما يعنيه من تأمين الحياة ومتطلباتها، والسيادة، في مواجهة قوى الاستعمار، بالحفاظ على الزعيم.
هذه الحالة العربية بين الحاكم والمحكوم كانت من الأسباب الرئيسة للإخفاقات والهزائم التي لحقت بقضايانا، في علاقاتنا الخارجية، كقضية فلسطين، وكما يجري هذه الأيام من خسارات وانهيارات لا يمكن تحمُّل نتائجها، كما هي محنة مصر، مثلًا، إزاء التهديد النازل بنهر النيل؛ رافد الحياة لمصر، كما قال المؤرِّخ اليوناني هيردوت، في مقولته الشهيرة "مصر هِبَةُ النِّيل". وكما هو الواقع في سوريا، من ضياع، أو تضييع لمعنى الشعب والدولة، لتستحيل الأمور إلى تهجير ملايين السوريين، وفقدان الدولة لمعنى السيادة، وتغوّل الدول المتصيِّدة لمواقعها ومصالحها، كما روسيا وإيران؛ فضلًا عن اضمحلال الدولة؛ لتغدو جهازًا أمنيًّا ومحاصصات لذوي النفوذ.. بعيدًا عن دولة المؤسِّسات، حيث المسؤوليَّة لا تنفكّ عن المساءَلة، وحيث لا تتعدَّى سلطةٌ على اختصاص سلطة، وحيث الشعب ممثَّلًا، ومراقِبًا، وحيث تُحشَد الطاقات العاملة على أساس الكفاءة، لا أنها تعطَّل، وتُحْجَب؛ لصالح المُوالين والمَحاسيب. ومن الأمثلة الدالّة على ذلك ما يحقِّقه كثيرٌ من العرب، خارج أوطانهم من نجاحاتٍ لافتة ومميَّزة، كما مثلًا، السوريون الذين كانت ظروف خروجهم من سوريا كفيلةً بمراكمة عوامل الإحباط، ولكنهم تميَّزوا على أبناء البلدان الأصليِّين، في دول أوروبية وغيرها.
وهذا يتجلَّى في أقسى صوره اليوم، في مصر، وغيرها، كسوريا، والنتيجة تكريس المؤسسة العسكرية، أو الأمنية، فهي الحاكمة، والضامنة للحكم، إمَّا مباشرة، كما حصل في مصر، عشيَّة تسلُّم المجلس العسكري شؤون مصر، بعد الإطاحة بالرئيس المخلوع حسني مبارك، وإمَّا بشكل غير مباشر، كما في تونس، هذه الأيام، بعد دعم الجيش، أو دفعه الرئيس قيس سعيِّد إلى ما أقدم عليه، من تغييرات خطيرة، تمثّلت في تجميد البرلمان، ورفع الحصانة عن جميع النوّاب، وإقالة الحكومة. ويبدو أن سعيِّد أقنع نفسه، نظريًّا، بهذه الخطوة؛ بذريعة إنقاذ البلاد من الفوضى، ومن تضارُب سلطات أجهزة الدولة المختلفة، وَفْق تصوُّر هوبز.
فلسنا محتاجين إلى براهين تثبت مسؤولية الاستبداد عن توليد الإخفاق تلو الإخفاق، كيف لا؟ وهو يضرب قوة الشعوب والدولة معًا، حين يشرح اللُّحمة الضرورية بينهما، ويسمح لحالات الابتزاز لذوي السلطة المتشبِّثين بها، بكل ما أُوتُوا من قوة، أن يقدِّموا البلد، ومقدَّراته، على أطباق من ذهب؛ لمجرَّد الاحتفاظ بالسلطة، بل بما تبقَّى من شكليَّاتها؛ ذلك لأن الحاكم المستبدّ قد يئس من مساندة شعبه له، ولم يَعُدْ له إلا السَّنَد الخارجي الطامع والمساوِم.
وأما الشعوب العربية المحكومة بالاستبداد، والمُعانية من عقباته المتأصِّلة، أمام التحوُّلات نحو الحكم الرشيد، فهي وبلا شك، تدرك مضارَّه، بل هي تعيش آلامه، ولكنها، أو غالبيَّتها، تكوَّنت لديها، بعد عقود من الاستبداد، مفاهيم تتنافى مع الحالة الطبيعية، التي هي تقبُّل اللذة والمنفعة، ورفض الألم والمضرّة، تلك المفاهيم تشكَّلت تحت سطوة الرضا بالقليل من اللذة والمنفعة، مقابل تجنّب آلامٍ أكبر، وأضرارٍ أوسع، (والشعوب، في الغالب، متصفة بقِصَر النَّفَس، تحت ضغط الحاجات المعيشية المُلِحَّة، كما ظهر في تجربتي مصر- السيسي، وتونس- سعيِّد)، ولكنّ لهذا التكيُّف حدودًا، حين يُجْحِف النظام، أو الفئة الحاكمة المستبدة، بكلِّ أساسيات المنافع؛ ماديَّةً، ومعنويةً، في بلاد كلبنان وسوريا ومصر، والعراق، وحتى تونس، مساس خطير بأوَّليَّات الحياة: الطعام والمسكن والعلاج، وحتى الماء الصالح للشرب، وليس انتهاء بالكهرباء، في جسرٍ من المهانات الإنسانية، والعذابات المعنوية الماحقة للكرامة، ومعاني الانتماء.
وفي المحصِّلة، فإنَّ انهيار معنى الدولة، من الأساس، وعطالة أجهزتها، اللازمة للبناء، المستند إلى المتطلَّبات العلمية والتقنية، والإنتاجية، يعزِّز فرص الحاكم المستبدّ، (مع ضعف مفاهيم الحياة السياسية والحزبية الحقيقية، تعليميًّا، وتربويًّا، وثقافيًّا)؛ بعد أن يُظهِر الحاكم الشمولي المشاركة السياسية، القائمة على التنوّع، عقبةً أمام النهوض بالبلد، ومواجهة أزماته المزمنة، والإيفاء بالمتطلَّبات المعيشية المُلِحّة.