كان العامل الديني في أفغانستان العامل الأكثر تأثيراً على الأحداث السياسية المعاصرة، بدءاً من الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، مروراً بتشكيل طالبان من طلبة العلم الشرعي لتقضي على تناحر الفصائل وتهيمن على أفغانستان.
ورفض "الملا عمر" تسليم المطلوبين لأميركا الذي كان مستندًا إلى فتوى دينية لا مصلحة سياسية، وعودة طالبان بعد غياب عشرين عاماً وهيمنتها على الدولة أعاد الحوار عن دور الشريعة الإسلامية في الدولة القادمة، وما هي مكانتها في الدستور القادم؟ وما هي أهم التغييرات التي ستطول القواعد الدستورية؟
للإجابة عن هذه التساؤلات والوصول إلى تصور عمَّا سيحدث على الأقل دستورياً، سنقف وقفة سريعة مع دستور أفغانستان الذي تم وضعه بإشراف قوات التحالف وطُبّق في أثناء وجودهم في البلاد.
دستور أفغانستان لعام 2004 من حيث الشكل
من المتعارف عليه بعد احتلال الدول تعمل الدول المحتلة على إصدار دستور جديد للبلاد، وأميركا ليست استثناءً من ذلك، فعمدت إلى إصدار دستور جديد، بعد أن تمت الموافقة عليه من قبل أكثر من 500 مندوب يمثلون (the Constitutional Loya Jirga) وليصدق الرئيس حامد كرازي عليه رسمياً فى حفل أُقيم فى كابل فى 26 يناير 2004.
لقد حاول الدستور المزاوجة بين الديمقراطية والإسلام، وقد ظهر ذلك من المقدمة، التي بدأها بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) و(الحمد لله رب العالمين، والسلام على محمد آخر رسله وعلى أصحابه وأتباعه).
وكرست الفقرة الأولى من المقدمة الحالة الإيمانية بقولها: (إيماناً راسخاً بالله العظيم، وبالتوكل على مشيئته الإلهية، والتمسك بالدين الإسلامي المقدس).
وختمها بالفقرة الأخيرة: (احترام ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان).
هوية الدولة
أعلن الدستور في مادته الأولى هوية الدولة من خلال اسمها (أفغانستان جمهورية إسلامية) وفي المادة الثانية أكد أن (الدين الإسلامي المقدس هو دين جمهورية أفغانستان الإسلامية) مع منح الحرية الدينية لأتباع الديانات الأخرى (ضمن حدود القانون في ممارسة وأداء طقوسهم الدينية).
ولا ينسى الدستور في المادة السابعة الالتزام بميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والامتناع عن الأنشطة الإرهابية، وزراعة المخدرات وتهريبها) ليضيف (تحريم إنتاج المسكرات وتعاطيها) وهذا نص مستمد من الفقه الإسلامي.
ونصّ الدستور في المادة (18) على أن تعتمد التقويم الهجري تقويماً رسمياً للدولة، ويوم الجمعة عطلة رسمية.
وفي المادة (19) حدد الشارة الوطنية للدولة ولم ينسَ أن يطعمها بعبارة دينية في منتصف الجزء العلوي ووصفها بالمقدسة وهي: (لا إله إلا الله محمد رسول الله والله أكبر)
أما المادة (20) التي تحدثت عن النشيد الوطني أكدت على وجوب (ذكر كلمة "الله أكبر") ضمن النشيد.
ونلاحظ أن الدين الإسلامي لم يغب عن جميع مظاهر الدولة ورموزها الشكلية، فالهوية واضحة والنشيد واضح والشارة الوطنية أوضح.
الشريعة الإسلامية والقانون
صرَّح الناطق الرسمي لحركة طالبان بأن الشريعة الإسلامية ستحكم المعاملات في البلاد، وهذا يدفعني لطرح تساؤل أجده مشروعاً، هل كان يوجد في البلاد قانون متعارض مع الشريعة الإسلامية؟ في ظل نص المادة الثالثة من الدستور الحالي التي تقول: (لا يجوز لأي قانون أن يتعارض مع مبادئ وأحكام الدين الإسلامي المقدس في أفغانستان).
وهو نص يحمل من الوضوح والدلالة بحيث لا يستطيع أحد تأويله أو تفسيره بما يسمح بصدور قانون مخالف للشريعة، كما حصل مع النص المصري (مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع) الذي فسرته المحكمة الدستورية المصرية تفسيراً منع تطبيقه في جميع الحالات.
لتؤكد المادة (130) أن المحاكم عند النظر في قضية ما، ولم تجد بالتشريع المكتوب نصّاً يحكمها أن ترجع للفقه الحنفي لحل الخلاف على أساسه، أما إذا كان المتخاصمون من الطائفة الشيعية فيرجع للفقه الشيعي.
إذاً هنا حدد الدستور المشرع العادي بألَّا يصدر قانون يتعارض مع الشريعة، ورسم للقضاء حدوداً بحيث لا يخرج عن تطبيق الشريعة.
وهي مبادئ لا يجوز تعديلها في الدستور وفق ما نصت على ذلك المادة (149): (لا يجوز تعديل مبادئ الالتزام بمبادئ الدين الإسلامي المقدس والجمهورية الإسلامية).
الأحزاب والمناصب السيادية في الدستور
لقد نصَّ الدستور الأفغاني على الحريات السياسية، ومنها حق المواطنين بتشكيل جمعيات مدنية أو أحزاب سياسية، لكنه قيدها في المادة (135) منه بمجموعة من القيود وكان القيد الأول منها (ألاّ يتعارض بيانها وميثاقها مع دين الإسلام المقدس والمبادئ والقيم التي يكرسها هذا الدستور).
أما لجهة المناصب السيادية في الدولة، فإن النظام السياسي الأفغاني يمكن تصنيفه بالشبه رئاسي، مع تغول لرئيس الدولة على باقي السلطات، وقد اشترط فيمن يتولى هذا المنصب أن يكون مسلماً، وقبل توليه المنصب يؤدي القسم التالي: (بسم الله الرحمن الرحيم ، أقسم بسم الله تعالى أن أطيع دين الإسلام المقدس وأن أحافظ عليه ، وأن أحترم وأشرف على تنفيذ الدستور والقوانين الأخرى، وصون الاستقلال، والسيادة الوطنية لأفغانستان وسلامة أراضيها، وسعيًا إلى التماس العون من الله تعالى ودعم الأمة ، سأبذل جهدي من أجل ازدهار وتقدم شعب أفغانستان).
أما المادة الرابعة والسبعون فقد حددت قسم الوزراء بصيغة متقاربة مع القسم السابق مع إضافة مهمة للوزراء وهي (حماية دين الإسلام المقدس).
أما أعضاء المحكمة العليا فقد وضعت المادة (118) مجموعة من الشروط منها الشرط الثالث الذي نصَّ على (أن يكون حاصلاً على تعليم عالٍ في الدراسات القانونية أو الفقه الإسلامي).
وقد حددت المادة (190) من الدستور صيغة قسم القضاة كما يلي: (بسم الله الرحمن الرحيم، أقسم بسم الله تعالى أن أحقق العدل والاستقامة وفق مبادئ الدين الإسلامي وأحكام هذا الدستور وقوانين أفغانستان الأخرى، تنفيذ الواجب القضائي بمنتهى الصدق والعدل والنزاهة).
هكذا نجد النص الدستوري لم يستطع التحرر من القيود الدينية سواء لجهة التعيين وشروطه أو القسم الواضح ارتباطه بالدين الإسلامي.
التعليم في الدستور
من المتعارف عليه أن حيادية الدولة المعاصرة تستلزم حيادية التعليم، فلا يبرز هوية دينية أو سياسية أو طائفية، لكن دستور أفغانستان الحالي عمِل بخلاف ذلك، فقد نصت المادة (17) على تعزيز التعليم (وتطوير التعاليم الدينية، وتنظيم وتحسين أوضاع المساجد والمدارس الدينية والمراكز الدينية).
ولم يكتفِ الدستور بذلك، بل أوجب في المادة (45) منه على أن (تضع الدولة وتنفذ مناهج تعليمية موحدة تستند إلى مبادئ الدين الإسلامي المقدس).
النسوية والديمقراطية في الدستور
إن من أكثر الذرائع التي استخدمها العالم الغربي للتدخل في أفغانستان هو وضع المرأة وتدهور الديمقراطية، لذلك كان من المفترض أن تكون هناك نصوص دستورية ملزمة وواضحة لجهة المرأة والديمقراطية.
لكن الحقيقة جاءت عكس ذلك، فقد جاءت المادة السادسة من الدستور وبعبور سريع على (تحقيق الديمقراطية) دون تحديد الوسائل التي تساعد على تحقيقها أو إلغاء ما يتعارض مع مبادئها كما فعل مع مبادئ الدين الإسلامي.
أما لجهة مكانة المرأة في الدستور فقد جاء نصّ المواطنة عام في المادة (22) منه، وأعطى حقوقاً وواجبات متساوية، في ظل دستور يمنع إصدار قانون يتعارض مع الشريعة الإسلامية، إذا نحن أمام مساواة قائمة على الشرع الإسلامي وليس على الديمقراطية عند تعارضهما.
وأكدت المادة (44) على أن (تضع الدولة وتنفذ برامج فعالة لخلق وتعزيز تعليم متوازن للمرأة، وتحسين تعليم البدو، وكذلك القضاء على الأمية في البلاد) هنا لم يأت النص الخاص لمعالجة وضع المرأة، بل جاء لمعالجة وضع عام في البلاد شمل فئات أخرى.
أما لجهة الحركة النسوية ومنظمات المجتمع المدني فلم يرد نص يتيح لهم حرية مطلقة بالعمل بل يمكن أن نستخلص من أحكام الدستور العامة، بأن الحركة النسوية في ظل الدستور الأفغاني الحالي لا تستطيع أن تدعو أو تطالب أو تكتب في مبادئها مع ما يتعارض مع مبادئ الإسلام سنداً للمادة 135 من الدستور، ولا سيما أن المادة (54) قد جاءت لحماية الأسرة ونصَّت على (القضاء على التقاليد ذات الصلة التي تتعارض مع مبادئ الدين الإسلامي المقدَّس).
وبعد هذه القراءة السريعة في دستور تم صياغته تحت إشراف قوات التحالف وتطبيقه في عهدهم، نتساءل مع الديمقراطيين: ماذا قدَّم هذا الدستور للتحول الديمقراطي الأفغاني؟ وماذا استطاع أن يفعل لقضية المرأة وتمكينها؟
ومن جهة ثانية نتساءل مع الإسلاميين: ماذا يمكن لطالبان أن تضيف لهذا الدستور من مواد تعزز من مكانة الشريعة التي تمنع أي قانون يتعارض معها؟
الحقيقة التي أراها أن دستور التحالف الحالي لن يختلف كثيراً عن دستور طالبان القادم.