جاء إرسال إيطاليا سفيراً لسوريا نتيجة عملية طويلة بدأها ممثل الاتحاد الأوروبي، الروماني الجنسية، لتطبيع العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والنظام السوري ليكون ذلك إنجازاً شخصياً له. الهدف من عملية التواصل مع النظام كما يسوقون هو مواجهة ثلاث تهديدات رئيسية تهدد أمن الدول الأوروبية وتمر عبر سوريا، وهي: وقف تجارة المخدرات، والحد من قدوم اللاجئين عن طريق توفير بيئة مقبولة داخل سوريا لمنع موجة جديدة من المهجرين، وأخيراً محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة.
حاول الاتحاد الأوروبي جاهداً أن يتبنى موقفاً سياسياً وخطة عمل لدعم الشعب السوري في ثورته ضد النظام. إلا أن غياب قيادات ومؤسسات للمعارضة ذات مصداقية وشرعية شعبية واهتمام السياسات الأميركية بالتفاوض مع إيران حد من أي مبادرة سياسية أميركية ودولية في المنطقة العربية لمواجهة إيران وأذرعها، بما في ذلك نظام الأسد. هذا شجع الجامعة العربية وتركيا على إعادة العلاقات مع النظام لمحاولة الحد من هذه التهديدات، وقد سوقت هذه المبادرة الأوروبية كجزء من الحراك الإقليمي تجاه النظام وليس خاصة بدول الاتحاد الأوروبي.
ترافق تغير المزاج العربي والأوروبي تجاه النظام مع سياسة الأخير بابتزاز هذه الدول عبر زيادة تصدير المخدرات إلى الاتحاد الأوروبي والدول العربية حتى تخضع لشروطه، حيث تم الكشف عن إلقاء السلطات الإيطالية لشحنة مخدرات بقيمة تتجاوز ملياراً ونصف المليار دولار، مصدرها النظام السوري بالتعاون مع المافيات الليبية والإيطالية. كما أعلنت السلطات الألمانية الكشف عن شحنة مخدرات سورية هي الأكبر خلال العام الماضي.
الوضع الاقتصادي السيئ في كل أنحاء سوريا يهدد بموجة نزوح كبيرة تشبه ما حدث عام 2015، مع أن أعداد المهاجرين إلى أوروبا في تزايد يومي رغم كل التضييق الذي تمارسه الدول الأوروبية والدول المحيطة بسوريا ضد السوريين بشكل عام واللاجئين بشكل خاص إلا أن الخوف هو من انفجار داخلي يؤدي لموجة جديدة من الهجرة التي لا تلقى أي ترحيب أو تفهم من كل دول الجوار السوري أو الدول الأوروبية كما كان الوضع عليه من قبل عدة سنوات. ولعب النظام علـى هذا الوتر بالتعاون مع حزب الله بتسهيل تهريب المئات من السوريين إلى لبنان عبر منافذ حدودية غير قانونية يسيطر عليها الحزب لإثارة الرعب من السيناريو الذي يخشاه الأوروبيون بالإضافة لوجود العشرات من اللاجئين السوريين يحاولون الوصول إلى قبرص كل أسبوع.
وأخيراً، لفت الانتباه إلقاء القبض على برونو كاربوني، متزعم مافيا "كامورا" الإيطالية التي تمتهن الاتجار بالمخدرات والبشر، أثناء دخوله من الأراضي التركية إلى سوريا؛ على علاقة المافيات بنظام الأسد واستفادتها من عدم وجود سلطة أمنية مركزية، مما يزيد المخاوف من عودة التنظيمات الإرهابية إلى التمركز في سوريا ومحاولة نقل نشاطاتها إلى أوروبا.
بالإضافة لكل ما سبق، فإن إيطاليا لم تتوقف عن إمداد نظام الأسد بمعدات عسكرية. كشف تقرير دولي صادر عن المنظمة الدولية للشفافية حول حماية الخصوصية، عن كيفية تمكن شركات تكنولوجيا غربية، بينها إيطاليا وألمانيا، من تزويد النظام في دمشق بمعدات ووسائل لتنفيذ عمليات تجسس وتنصت واسعة النطاق على الناشطين السياسيين والمعارضين والصحفيين والمواطنين بشكل عام.
موضوع اللاجئين يبقى الهاجس الأبرز أوروبياً من عدة زوايا: أولا يخشى الأوروبيون قدوم أشخاص ينتمون إلى منظمات إرهابية مثل داعش والنصرة وحزب العمال الكردستاني مع اللاجئين السوريين، ويخشون من قدوم أشخاص ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية في سوريا، ويخشون انتقال عمليات غسيل الأموال واستخدام الأراضي الأوروبية لإعادة شحن المخدرات القادمة من سوريا إلى دول الخليج.
ويبقى البعد السياسي للنزوح السوري هو الخطر الأكبر، حيث إن حركة النزوح السوري إلى أوروبا التي بلغت أوجها عام 2015 عندما دخل أوروبا أكثر من نصف مليون سوري قدموا مشياً على الأقدام. أسهمت بتقوية نفوذ الأحزاب اليمينية الأوروبية وأفكارهم المتطرفة بحجة أن اللاجئين هم سبب الأزمة الاقتصادية في الدول الأوروبية ولا بد من ترحيلهم.
لذلك، دائماً ما يطرحون أفكاراً تقوم على الطرد الآمن للاجئين لكسب أصوات وشعبية أكثر في مجتمعاتهم، معظم هذه الأحزاب معروفة بقربها من روسيا وسياساتها، وبعضها تلقى دعماً مالياً مباشراً من الروس. وهذا ما حدث بالفعل، حيث فازت هذه الأحزاب بمقاعد وأصوات في أماكن مختلفة من أوروبا، كان أبرزها فوز حزب "إخوة إيطاليا" في الانتخابات التشريعية الإيطالية عام 2022. حيث علق المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف على هذا الفوز قائلاً: "نرحب بأي قوى سياسية قادرة على تخطي التيار السائد المشحون بالكراهية لبلدنا".
ولتحقيق هذه الوعود الانتخابية جرت لقاءات لقيادات أمنية عالية المستوى من إيطاليا ورومانيا مع النظام السوري لبحث أفكار تتعلق بإقامة مناطق آمنة داخل سوريا لإعادة اللاجئين غير القانونيين الموجودين في هذه البلدان. يتم تداول أن تقوم روسيا بضمان العودة الآمنة حيث ستفرض على النظام القيام بإجراءات تسمح للأوروبيين بالقول إن عودة اللاجئين السوريين إلى بعض المناطق السورية هو عودة آمنة. ويترافق ذلك مع إنشاء صندوق لإعادة الإعمار المبكر التابع للأمم المتحدة، الذي اقترحه عبد الله الدردي عندما كان في البنك الدولي وكرره مندوب الأمم المتحدة في سوريا المقرب من السلطات النظام السوري، بالتبرع له من الدول الداعمة لتجاوز العقوبات الأميركية على نظام الأسد على أن يبقي النظام السوري مناطق العبور الحدودية مع تركيا مفتوحة لدخول المساعدات الإنسانية.
يبدو أن نظام الأسد طلب من إيطاليا أن تعين سفيراً لها في دمشق لتبني هذه الفكرة كخطوة أولى لبناء الثقة بين الطرفين بعد أعوام طويلة من الاتصالات الأمنية. واللافت للنظر أن الولايات المتحدة لا تعارض أي تواصل مع النظام، بالعكس فقد خففت الضغط الاقتصادي عنه، وهي من أوقفت قرار تمديد العقوبات عليه ووظفت أشخاصاً يميلون لإقامة علاقات مع النظام في المواقع المتعلقة بالملف السوري.
بالمجمل، تقييم هذه الدول الأوروبية والولايات المتحدة هو أن النظام موجود بحماية إيرانية وروسية، وبغياب كل أشكال المعارضة، لا أحد يريد انهيار هذا النظام حتى لا تحدث فوضى شبيهة بما حدث في ليبيا والعراق، حتى لو يعني ذلك تسليم هذا البلد لإيران. هم يعرفون تمام المعرفة أن التواصل العربي مع النظام لم يؤدِ لأي نتيجة، ومع ذلك يريدون تكرار التجربة.