لعل ثاني ما يوحد سياسات الأطراف المتصارعة في الشرق الأوسط هو الجرأة في تنفيذ التغيير الديموغرافي، عبر سياسات وأدوات تنفيذ غاية في التطرف والقسوة، ليكون العنف هو أول ما يوحد أنظمة الشرق الأوسط.
فمع تكوّن الصورة الحالية للخريطة الجيوسياسية لهذا الشرق الأوسط الذي نعيش فيه، تعالت أصوات رافضة لهذا التقسيم الجائر بالنسبة للجميع، عرباً وتركاً وأكراداً وفرساً ويهودا وأرمنا وتركمانا وسريانا. ليستغرق الانغماس في الخريطة الحالية قرابة قرن من الزمن قبل أن يعاد النظر في خريطة سايكس بيكو من جديد، عبر نظرية أطلقتها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بُعيد احتلال العراق وحديثها عن الفوضى الخلاقة التي ستعيد تشكيل الشرق الأوسط الجديد على حد تعبيرها.
النظام السوري كان أشد من نفذ هذه السياسة عبر تغييره وإعادة تموضع قرابة نصف التعداد السكاني للجمهورية السورية (نحو 12 مليون إنسان) انتقلوا بشكل كامل أو جزئي إلى دول الجوار في تركيا والأردن ومصر ولبنان والغرب، ولا يدري إنسان كيفية أو مصداقية وعود إعادتهم إلى بيوتهم، حيث تم تفريغ مدن بكاملها من أهلها وسكانها، في مقابل تقارير أممية وصحفية تتحدث عن توطين لاجئين أفغان وباكستانيين ومواطنين عراقيين ولبنانيين في بيوتهم، ولنا في داريا وريف دمشق الغربي وجنوبي دمشق وأرياف حلب المثال الصارخ.
في مقلب آخر تم إفراغ سيناء من بعض سكانها، وتم تهجير أهالي مدن كردية من أهلها في سوريا، تهجير أهالي مدن وبلدات في العراق من سكانها وتوطين "أغراب" مكانهم حسب تعبير السكان الأصليين. في مدن مثل ديالى وجرف الصخر وحزام بغداد ونينوى ومحاولات في الأنبار.
تمارس إسرائيل علانية وعلى لسان وزراء في الحكومة المصغرة التغيير الديموغرافي، وتتحدث عن ضرورة التخلص من السكان الأصليين للبلاد من الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة وحتى عرب 48
في لبنان يشتكي الساسة المحليون من مخاوف تراودهم من محاولات تغيير ديموغرافي تطول بلدهم بهدف توطين اللاجئين السوريين والفلسطينيين هناك، بينما تمارس إسرائيل علانية وعلى لسان وزراء في الحكومة المصغرة التغيير الديموغرافي، وتتحدث عن ضرورة التخلص من السكان الأصليين للبلاد من الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة وحتى عرب 48، كبديل وحيد للتخلص من القنبلة الديموغرافية التي تحيق بإسرائيل نتيجة ارتفاع نسبة المواليد بين الفلسطينيين بالمقارنة مع الإسرائيليين أنفسهم، ومؤخراً نحن بصدد خطة نتنياهو التي تفترض تهجير مليوني إنسان من قطاع غزة إلى صحراء سيناء من أجل إعادة توطينهم فيها، ولإفراغ القطاع بالكامل من أجل تدمير البنية التحتية لحركة حماس فيه، قبل السماح بإعادة أعداد منتقاة من السكان إلى القطاع تحت إشراف دولي وعربي.
تبدو هذه الصورة القاتمة أشبه بسياسات قاسية جداً مستمدة من طموحات مارسها جوزف ستالين في فترة حكمه للاتحاد السوفييتي، مع الشعوب التي تقطن هناك، حيث أنه قد قام بتهجير ملايين من المسلمين إلى سيبيريا ومئات آلاف من الأوكرانيين من أرضهم، وعشرات آلاف من التتار والشيشان والأرمن وغيرهم في محاولة لتشكيل لوحة ديموغرافية تلائم صورته للعالم الذي كان يريد تشكيله.
نجح من خطته ما نجح، ولكن أجزاء كبيرة منها لا تزال تعاني من اضطرابات شديدة ولا تزال بلدان الاتحاد السوفييتي السابقة تعاني من عقابيلها، مثل الصراع الأخير بين أذربيجان وأرمينيا.
في الشرق الأوسط، يتم الإعداد لصورة مشابهة لما حلم به ستالين، عبر إعادة تشكيل بلدانه عبر تغييرات قومية وإثنية صارخة، تتيح إعادة ترسيم الحدود من جديد بناء على هوية سكانه أو قوميتهم أو دينهم أو عرقهم، يبدو جميع الحكام منسجمون مع ما يحدث، والبعض منهم يساهم بشدة في تنفيذ هذه الخطة، عن قصد أو من دون قصد، ويبدو البعض الآخر متخوفاً ومترددا في القبول بما يجري، ويسعى جاهداً لإعادة ما أمكن من السكان إلى أرضهم على الأقل في موقعين مهمين هما فلسطين وسوريا، فالموقف الرسمي العربي واضح وجلي فيما يخص شؤون اللاجئين السوريين الذين يتمنع النظام السوري عن القبول بعودتهم وكأنهم لم يعودوا مواطنين سوريين بعد أن رفضوا سياسات حكم استمر أكثر من نصف قرن، بينما في فلسطين تتمسك الدول العربية بحل الدولتين الذي يعني إعادة تجميع ملايين الفلسطينيين في دولة فلسطينية وليدة، ستكون مركزاً يسمح لملايين المهجرين من الشعب الصامد أن يعودوا إليه ويتنعموا بجنسيته، بما يريح بلداناً مثل لبنان والأردن من مخاوف التغيير الديموغرافي الذي يعنيه عدم عودة اللاجئين الفلسطينيين.
كيف سيُبنى الشرق الأوسط الجديد في ظل مظلوميات وتهجير واحتلال وانعدام تام للعدالة؟ حيث أن الجواب يأتي دوماً بأن غياب القانون يسمح على الدوام للقوة العسكرية والعنف بتهجير السكان
أما في العراق وشمالي سوريا وغزة فليس لأحد أن يعرف ماذا تحمل الأيام لملايين السكان الأصليين، وهل سيعودون أم لا. لكن ما يشكل مفصلاً حاسماً لهذا السؤال هو الموقف أو القبول بالسماح لإسرائيل بتهجير مليوني إنسان، مما سيشكل سابقة بعد النكبة 1948، وسيتم اعتماد الإجراء الإسرائيلي كأساس قانوني في الشرق الأوسط يسمح للحكومات بتثبيت التغيير الديموغرافي في بلدانهم، دون أن ننسى أن رأس النظام السوري تحدث علانية عن تجانس جيد نشأ في سوريا بعد الحرب.
لكن كيف سيُبنى الشرق الأوسط الجديد في ظل مظلوميات وتهجير واحتلال وانعدام تام للعدالة؟ حيث أن الجواب يأتي دوماً بأن غياب القانون يسمح على الدوام للقوة العسكرية والعنف بتهجير السكان، فعلتها إسرائيل في فلسطين 1948، ولم يتغير شيء، وفعلوها أيضاً في الجولان1967ولم يتغير شيء، ولربما ستفعلها إسرائيل في غزة وجنوبي لبنان إن استمرت الحرب الحالية، وسيتم توطين أهالي غزة في مصر، وأهالي الجنوب اللبناني في سوريا ربما، مما سيعني أن الطرف العسكري الآخر في هذا الصراع يتفق بشكل كامل مع السياسات الإسرائيلية عبر موافقته على تشكيل الشرق الأوسط الجديد كلياً، فهل تتخلى البيوت عن أصحابها، وهل يتنكر الشجر لزرّاعه، وهل تنسى الشوارع من مشى عليها يوماً، أم هذا هو حال العالم الذي لا يعترف إلا بالقوة.