استيقظ السوريون في تركيا يوم ١٤ آب/أغسطس ٢٠٢١ على وقع عبارات عنصرية ضدهم في شارع زبيدة هانم في أنطاكية، التابعة لولاية هاتاي التركية جنوب البلاد، وذلك ضمن موجة عنصرية رافقت مشكلة شخصية بين شاب سوري وتركيين انتهت بطعن الشاب السوري لتركيين ومقتل أحدهما وإصابة الآخر في منطقة ألتن داغ في العاصمة أنقرة.
بعد انتشار الخبر تحولت منطقة ألتن داغ إلى ساحة أعمال شغب، بعد نزول مئات الأتراك للشارع واعتدوا على محال السوريين، ورشقوا بعض منازل السوريين بالحجارة وحاولوا اقتحامها، فيما حاولت الشرطة التركية التدخل لكنها لم تنجح في إرجاع المواطنين الغاضبين إلى منازلهم إلا بعد حصيلة كبيرة من الخسائر، والتدمير في ممتلكات السوريين هناك، وانتظرت الشرطة هدوء الشارع وقامت باعتقال ٧٠ شخصا من المهاجمين.
هذه لم تكن أول مرة يتعرض بها السوريون لموجة اعتداءات عنصرية على إثر مشكلة شخصية بين سوري ومواطن من البلد المضيف، ويعتبر تصريح رئيس بلدية أنقرة منصور يافاش الذي دان مقتل الشاب التركي ودعا لإعادة السوريين إلى بلدهم نموذجا عن فشل السياسيين في مواجهة مثل تلك المشكلات الداخلية، فبعد مرور عقد من وجود آلاف السوريين على الأراضي التركية يتطلب الأمر طريقة مختلفة في التعامل مع تلك الحوادث، وتتجلى ملامح فشل السياسيين في إدارة ملفات اللاجئين والمهاجرين بعدة وجوه:
الوجه الأول: التعاطي مع المهاجرين واللاجئين على أنهم جسم غريب عن تلك المجتمعات بعد اندماجهم فيها لعدد من السنوات، وهذا يدل على أن دورات الاندماج التي ينخرط اللاجئون فيها من أجل حصولهم على إقامات أو جنسيات البلد المضيف، أمر يحتاج إلى أن يتعرض لمحتواه المواطنون والنخب في البلد المضيف، فكما يتم تعليم اللاجئ حول قوانين البلد المضيف وثقافته كشرط لحصوله على الإقامة أو الجنسية، يجب تعريض مواطني البلد المضيف ونخبه لنفس المادة حول تقبل الآخر وثقافة الاختلاف، وضرورات الاندماج والتعايش كجزء من الخطة التعليمية في المدارس والجامعات، كذلك كجزء من الثقافة العامة، فبلد مثل تركيا يستضيف آلاف اللاجئين في مناطق مختلفة، يتطلب الأمر التفكير بأكثر من عمليات الدمج الاقتصادي وتوفير متطلبات الحياة لهم، ونقل تجربة الاندماج للمناهج التعليمية كأساس للتعايش وكجزء كبير من حل مشكلات العنصرية، وضخ الكراهية في الإعلام الاجتماعي، لأن التحريض على الكراهية في تلك الوسائل يعكس حالة ثقافية شمولية، ونوعا من التجهيل المنهجي بحقوق اللاجئين خاصة في وسط يتسم بالتوتر والحروب المستمرة.
تم توظيف ملف اللاجئين كجزء من الاحتراب السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي الداخلي في تلك المجتمعات، خاصة بعد صعود اليمين الشعبوي المتطرف
الوجه الثاني: عكس الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية داخل البلد المضيف على اللاجئين: عانى اللاجئون السوريون في دول عدة مضيفة لهم سواء في الشرق أو الغرب من نفس المشكلات، حيث تم توظيف ملف اللاجئين كجزء من الاحتراب السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي الداخلي في تلك المجتمعات، خاصة بعد صعود اليمين الشعبوي المتطرف في تلك الدول، حيث أصبح اللاجئ جزءا من الحملة الانتخابية لتلك الأحزاب ويتم توظيفه من أجل حشد الدعم الشعبوي وحصاد أصوات المتطرفين، بتصوير اللاجئين من سوريا على أنهم يؤخرون تلك المجتمعات، ويتسببون في حالة من التخلف فيها عن مواكبة احتياجات قطاعات الصحة والتعليم بسبب الدعم الحكومي للاجئين في تلك الدول، وهذا أمر عززه الإعلام الاجتماعي حيث تنميط اللاجئين وتصنيفهم، فاللاجئة العربية هي امرأة متخلفة اجتماعيا وتعليمياً ومن بيئات منغلقة، وهي مغلوبة على أمرها مسلوبة إراديا خاصة المسلمات منهن حيث يتم طرحهن على أنهن نماذج للإلغاء، وتهميش المرأة، والحرب المؤسسية المستمرة على حجاب المسلمات دليل على النظرة الوصائية لمؤسسات تلك الدول للنساء اللاجئات، كذلك يتم تصوير الرجل اللاجئ العربي على أنه عديم الحيلة، عنيف، ومتطرف دينياً، ليس صاحب إسهام في تلك المجتمعات، وأنه يمد يده إلى ما يجب أن يكون في صالح المواطنين عند تلقيه المساعدات الاجتماعية من حكومات تلك الدول.
هذا التنميط والتصنيف الذي عكفت عليه المؤسسات السياسية والمجتمعات المنغلقة أسهم في تفشي ظاهرة العنصرية حيال اللاجئين خاصة في فترة تفشي الوباء، وبرز العديد من الأصوات العنصرية التي تطالب الحكومات بدعوات عنصرية بمحتوى فاشي صرف على أن يتلقى المواطنون اللقاحات قبل اللاجئين، وهذا بحد ذاته مؤشر كبير على الأزمة الثقافية والأخلاقية والإنسانية التي تشهدها الأحزاب اليمينية المتطرفة وكل شعبوي.
الوجه الثالث: تشترك تلك الحكومات والشخصيات والأحزاب المتطرفة تجاه اللاجئين بميزة واحدة، وهي الابتعاد عن جوهر القضية: فالجريمة الأكبر التي تقع، وقعت وما زالت تقع في سوريا أولاً وثانياً، وإلى أن يتم تهيئة ظروف مناسبة للاجئين في بلدانهم كي يكفوا عن التدفق إلى دول أخرى، فاللاجئ الهارب من كل أصناف الموت التي وجهها النظام السوري تجاه شعبه بالتواطؤ مع عدة أطراف دولية حامية له، هو عرض من أعراض المرض الرئيسي وهو وجود ديكتاتور مجرم يمارس عملية تهجير جماعي ضد مواطنيه، حيث أصبح مقياس حق السوري في الحياة والمواطنة لا ينطلق من كونه إنسان سوري فقط وإنما إنسان سوري موالي للنظام الديكتاتوري المجرم.
لا يمتلك الشعبويون واليمينيون المتطرفون الذين يحرضون على اللاجئين شجاعة مواجهة جوهر القضية الأساس، وهو تواطؤ بلدانهم وحكوماتهم في مأساة اللاجئين، فيذهبوا في حصاد نقاطهم السياسية والانتخابية إلى توجيه الكراهية للاجئين فهي طريقة أسهل للهرب من المسؤولية، وتصوير تلك المجتمعات الكارهة سواء الضيقة والواسعة منها بأنها تقدم للاجئين فوق طاقة احتمالها، وأن ما يتم منحهم إياه من حق إنساني مكفول بالقوانين والشرائع الدولية باللجوء، هو فضل كبير، ومنة هائلة، ويجب توظيفها داخليا ودوليا من أجل حصد المكاسب بكل الاتجاهات، في الوقت الذي يكون فيه اللاجئ هو مادة تلك الحروب الإعلامية والسياسية ووقودها المستمر دون أدنى اكتراث بأبسط حقوقه الإنسانية.
الوجه الرابع: الوطنية والانتماء للدول القطرية بوصفها معضلة أمام موجات الهجرات واللاجئين التي فاقت نظيراتها على مر قرون في العصر الحالي، حيث أصبحت الوطنية معيقا أمام تقبل المواطنين بتلك البلدان لأي مكونات اجتماعية ديمغرافية طارئة في تلك المجتمعات، وهذا من شأنه أن يحول الانتماء لهوية أو وطنية أو عرق معين في مثل هذه الحالات لنوع صلف من الفوقية الهوجاء والتعالي على باقي الجنسيات، وهذا يعيدنا للمربع الأول من الحلول وهو ضرورة نشر ثقافة الاندماج للمواطنين والنخب مع المكونات الديمغرافية الطارئة كجزء من الحالة الثقافية السائدة في الدول القطرية، حتى لا يكون الانتماء الوطني عائقا أمام عملية الاندماج في الاتجاهين.
الوجه الخامس: الإخفاق الدولي عموماً في التعامل مع المشكلات التي تمس المجتمع العالمي برمته، ويأتي على رأسها مشكلة اللاجئين، فكما يتم التعامل مع البيئة عالميا على أنها من القضايا المشتركة والتي تمس الإنسانية جمعاء، لا بد من التعامل مع مشكلة اللاجئين على أنها كذلك، فالمشكلات التي في حال تم تناولها بتهميش عالمي كمشكلات اللاجئين، إن استمرت المنظمات الدولية والدول الكبرى بالتعامل معها على أنها قضية خيام وكرت مؤن، سيؤزم هذا أكثر في مكونات المجتمع العالمي وسيحيله لساحة احتراب بين المكونات الاجتماعية المختلفة، وسيؤدي لحرائق وأمراض سياسية وثقافية واجتماعية بشكل أسرع من تلك التي تنتشر على امتداد غابات العالم.
الوجه السادس: التحريض الإعلامي، تشهد منصات التواصل الاجتماعي كذلك المؤسسات الإعلامية المختلفة التابعة للجهات المتطرفة حالة من التحريض المستمر على اللاجئين والمختلفين دون رقابة قانونية، ودون مساءلة، وهذا أمرٌ يستدعي أن يقوم من أجله البرلمانيون والمشرعون في تلك الدول من أجل سن القوانين المعادية للعنصريات ولخطابات الكراهية المتفشية، ونقلها من دائرة السيولة الحالية، إلى دائرة الضبط والمساءلة القانونية، فلا يوجد ما يمكنه أن يكبح جماح السياسيين والمتطرفين من الترويح عن أنفسهم في الإعلام الاجتماعي والرسمي بخطاب الكراهية والعنصرية أكثر من القوانين، التي في حال تم سنها وتطبيقها ستجنب أجيال قادمة من أن تعيش في منعزلات فاشية عنوانها الوطنية أو القومية أو الانتماء.
إذا استمر توظيف اللاجئين في الحروب السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية والعالمية، فإن الانعزالية الفاشية ستدمر الأجيال القادمة
وتعد السمة والوجه الأبرز لفشل السياسيين والمؤسسات في التعامل مع اللاجئين، بالنظر إليهم على أنهم خيار لا التزام، فالتعامل مع جريمة فردية للاجئ كوصمة لمجتمع اللاجئين هو انعكاس لحالة الفشل تلك، وعدم جدية السياسيين بالتعاطي مع اللاجئ كجزء من مجتمعه، وإنما يتم التعاطي معه على أنه شبه مواطن، بشبه حقوق مطلوب منه واجبات كاملة، في المقابل مطلوب منه أن يتصرف في تلك المجتمعات على أنه غير موجود، بعدم توقع الشر منه بنفس درجة توقع الخير منه، وهذا مؤشر على عدم أنسنة اللاجئ في تلك المجتمعات، فمرة تريده الحكومات ملاكاً لا يخطئ ولا يقترف المشكلات، في الوقت الذي تدعو للتخلص منه كما لو أنه حمولة ديموغرافية زائدة على الطريقة الهتلرية في حال اقترف انتهاك أو خطأ، وكأنه يجب أن يعاقب مرتين مرة إذا أخطأ ومرات لأنه لاجئ مخطئ، حتى وإن كانت قوانين العقوبات الصريحة واضحة في كل الدول!
في المحصلة، إن لم تحصل ثورة عالمية في القيم، فإن الوطنيات والقوميات والعنصريات الضيقة ستزيد من معاناة الجميع، ووفق ما يحصل الآن إذا استمر توظيف اللاجئين في الحروب السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية والعالمية، فإن الانعزالية الفاشية ستدمر الأجيال القادمة، وستكون عائق أمام التعايش السلمي، وستزج المختلفين بغيتوهات مختلفة..