في أعقاب القمة الأخيرة لحلف الناتو في العاصمة الليتوانيّة فيلنيوس، يومي 11-12 تموز الجاري، صرّح رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان مكرّراً معادلة طالما جرت خلال السنة الماضية على ألسنة زعماء الناتو الذين لم يحسموا بعد مسألة انضمام أوكرانيا للحلف: "إذا دخلت أوكرانيا إلى الناتو ستنشب حرب مباشرة بين الحلف وروسيا".
والنّاتو من جانبه لا يريد حتّى الآن الدخول في حرب مباشرة مع روسيا، ولعلّ معادلة المصالح واضحة بالنسبة لـ"أوربان" إذ عرفنا أنّ عين الرجل متّجهة إلى مقاطعة "زاكارباتيا" غربي أوكرانيا والمحاذية للحدود المجريّة، حيث يسكنها نحو مليون وربع من النّاطقين باللغة المجريّة و"أوربان" يقول: "إنّهم مهدّدون".
وبحسب رئيس الوزراء المجري فإنّ أوكرانيا لم تعد "دولة ذات سيادة" فلا يمكنهم القتال إلا بدعم من الغرب، أمّا "أوربان" الذي يعتبر نفسه غربيّاً فيرغب في إنهاء الحرب لكن "شعوب غربي أوروبا -أميركا- ترغب باستمرارها"، يقول صراحة: "أميركا هي من يقرّر متى تنتهي الحرب".
من المعهود بالنسبة للمتابعين ميل المسؤول المجري إلى الروس وإلى بوتين على وجه الخصوص، في حين لم تحسم دول النّاتو خلال الاجتماع في "فيلينوس" مسألة انضمام أوكرانيا إلى الحلف رغم الإعلان عن إزاحة "العوائق" المتعلّقة بمطابقة أوكرانيا لمعايير الانضمام للحلف، لكن دون تحديد جدول زمني لانضمامها؛ ما أثار حفيظة الرئيس الأوكراني.
المعلن من أهداف الروس أنّهم يخوضون حرباً في أوكرانيا لمنع وصول سلاح النّاتو إلى الحدود الروسيّة لأنّ سلاح النّاتو يهدد السيادة الروسيّة؛ فيما تسعى أوكرانيا للدخول إلى النّاتو على أمل أن يردع انضمامها الغزو الروسي..
إذا حاولنا مراجعة بنك الأهداف لأطراف الصراع فالمعلن من أهداف الروس أنّهم يخوضون حرباً في أوكرانيا لمنع وصول سلاح النّاتو إلى الحدود الروسيّة لأنّ سلاح النّاتو يهدد السيادة الروسيّة؛ في حين تسعى أوكرانيا للدخول إلى النّاتو على أمل أن يردع انضمامها الغزو الروسي، في حين أنّ الناتو يعلن عبر مسؤوليه أنّه لا يرغب في خوض حرب مباشرة مع روسيا: ثم يؤكّد مسؤولوه -على رأسهم الرئيس الأميركي- أنّ انضمام أوكرانيا للحلف مرتبط بانتهاء الحرب.
كأنّ الحلف يقول لروسيا: "لا توقفوا حربكم على أوكرانيا لأنّ إيقاف الحرب يعني انضمام أوكرانيا للحلف؛ لذلك ربّما صعّد الرئيس الأوكراني من لهجته لدرجة أنّه استخدم لغة غير دبلوماسية".
على أيّ حال فالسياسة فن إدارة المصالح -لا القيم- والرئيس الجيّد "لابد أن يكون قادراً على الخداع" على حد زعم عالم السياسة الأميركي جورج فريدمان في كتابه "الإمبراطوريّة والجمهوريّة في عالم متغيّر"، إلّا أنّ ارتباط قرار السلم والحرب بالسّيادة قد يخلق مزيداً من التوتّر بين أوكرانيا وبين بعض أعضاء الحلف في الفترة المقبلة من جهة تناقض المصالح السياسيّة في "متى وكيف يمكن أن تنتهي الحرب"، وهل تنتهي تسوية بين الحلف وبين روسيا على تقاسم أوكرانيا كمنطقة نفوذ مشترك، أم على إرغام روسيا على تقبّل إرادة الأوكران بالانضمام إلى الحلف؟!
حين كتب "كانت" كتابه: "مشروع السلام الدائم" تفاءل بأنّ إعادة قرار السلم والحرب للشعب سيؤثّر إيجاباً في التقليل من الحماس تجاه الحروب فالشعب الذي يدرك أنّه هو المعني بالموت على جبهات القتال سيكون أكثر ميلاً إلى السلام ولن يحارب إلّا إذا كانت خسائر الحرب أهون عليه من ذلّ السلام؛ كأن يفقد حريّته مثلاً.
لا يبدو منطق "كانت" قابلاً للصمود في أيّامنا هذه إذ صار بإمكان "الدول ذات السيادة النّوويّة المتوحّشة" أن تظلّ متحمّسة في الدفاع عمّا تعتبره "مصالحها" طالما يمكنها التهديد باستخدام النّووي، وبالمقابل فإنّ بإمكان "الدول ذات السيادة النّوويّة الديمقراطيّة" أن تجد من يحارب نيابة عنها.
لكن هل الشعوب التي تريد الحريّة -كالأوكران أو السوريين- ليسوا إلّا "وكلاء" كما يحلو للسيادة النّوويّة المتوحّشة تسميتنا؟!
لكن هل الشعوب التي تريد الحريّة -كالأوكران أو السوريين- ليسوا إلّا "وكلاء" كما يحلو للسيادة النّوويّة المتوحّشة تسميتنا؟!
في المقابل قد يطيب لمسؤولين غربيين إدانة اعتداء روسيا على أوكرانيا بوصفه "هجوما على ديمقراطيّتنا" كما قال المسؤول في الوقت الذي يرفض فيه المسؤول ذاته خوض حرب مباشرة للدفاع عن "ديمقراطيّته" طالما أنّ ثمّة من يمكن أن يقاتل عوضاً عنه.
ثمّة سيرورة حقوقيّة موثّقة: هاجم الجيش الروسي أوكرانيا، ونصح الغرب زيلينسكي بالهروب لكنّ الرئيس البطل وجيشه فضّلوا الصمود؛ فلم ير الناتو بدّاً من دعمهم صمود الأوكران في وجه الجيش الرّوسي؛ وكأنّ قضيّة الأوكران بدأت مع الهجوم الروسي لا مع رغبتهم بالانضمام إلى المعسكر الديمقراطي.
إذاً بقاء أوكرانيا أقل سيادة يصب -حتى الآن- في مصلحة الجميع -روسيا والنّاتو- إذ يمنح المفاوضات أفقاً نحو تسوية ممكنة بين سيادتين نوويّتين، لذلك يبحث زيلينسكي عن مزيد من الضمانات والسّلاح النّوعي.
لأوكرانيا بالذات تجربة غير سارّة مع "الضمانات" حين تخلّت عن أسلحتها النّوويّة في تسعينيّات القرن الفائت لصالح روسيا مقابل ضمانات غربيّة باستقلال أوكرانيا والمفارقة المؤلمة للأوكرانيين غالبا أنّ التوقيع على تلك الاتفاقيّة كان قد تمّ وقتذاك في "بودابست" عاصمة الزعيم المجري "أوربان".
ومن جديد يعرض النّاتو على الأوكران "ضمانات" عوضاً عن قبول انضمام أوكرانيا للناتو، وعن سقف تلك الضمانات العسكريّة يقول وزير الدفاع البريطاني: "الدول ليست متجر أمازون لبيع الأسلحة" وعلى الأوكران أن يشعروا بالامتنان.
ثمة تقارير بدأت تذكر أنّ نسبة من السلاح المقدّم للأوكران يضيع في الطريق قبل الوصول إلى غايته؛ وربّما على المتعاطفين مع الأوكران ضد الروس أن يتمنّوا كثيرا خلال الأشهر المقبلة كي لا تخرج تقارير أخرى تؤكّد وصول شيء من تلك الأسلحة "الضّائعة" إلى الجهة الخطأ، لأنّ ذلك سيعني مقدّمة لمنع وصول أي سلاح نوعي ليد الجيش الأوكراني؛ ما يعني أيضاً تمكّن الدّاعمين من السيطرة على قرار السلم والحرب بشكل كامل.
يحارب الأوكران دفاعاً عن وجودهم في حين تفاوض الأطراف الداعمة لنيل مكاسب سياسيّة، والطرفان -الأوكران بقيادة زيلينسكي وحلف النّاتو- إن كانا لا يزالان حليفين حتى اللّحظة ولا تزال أوكرانيا تسيطر على شيء من قرارها، فلعلّ من المرجّح أن لا يظل التحالف بين طرفين متوتّرين صامدا لوقت طويل، وقد يحتاج النّاتو إلى "شريك" محلّي أكثر مرونة وأكثر قابليّة لتقديم التنازلات من زيلينسكي في المرحلة المقبلة.
وتكاد تستمر مساحة التناقض بالاتساع بين شعوب تحمل قضايا حقيقيّة وبين إرادات نوويّة تحرص على توخّي الحكمة في اقتسام الكرة الأرضيّة فيما بينها بالعدل، فتضع تلك القوى قواعد اشتباك لا تموت خلالها إلّا الشّعوب العاديّة ذات السّيادة والإرادة المعدومتين، ثمّ تسوّي تلك السيادات النّوويّة الخلافات فيما بينها وتعيد ترتيب مصير الشعوب ليتناسب مع التسويات الموقّعة.