اليوم كم هو عدد الدول والحكومات والهيئات والمؤسسات المحلية والإقليمية والعالمية التي تؤمن أن منظمة الأمم المتحدة فخورة بما قامت به طيلة 77 عاما من عمرها؟ وهل هناك من يعول على احتمال نجاحها في الدفاع عن الشعارات والمبادىء التي رفعتها في ميثاق العام 1945 وحماية البشرية من التحديات والمخاطر والأسوأ الذي ينتظرها؟ هل ما زالت هذه المؤسسة التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية وكل ما تسببت به من آلام وبؤس صالحة لتلبية احتياجات المجتمع الدولي والحؤول دون ذهابه نحو كوارث وحروب ومجاعات وحرب عالمية ثالثة قد تنفجر في كل لحظة كما يقال لنا اليوم؟ هل سيكفي الحديث عن ضرورات إصلاح هيكلية المنظمة وبنيتها ومؤسساتها وطريقة عملها لإخراجها من ورطتها كي تخرجنا بدورها من ورطتنا كشعوب ودول ومجتمعات عولنا عليها؟ من الذي سيفعل ذلك وهل بمقدوره حقا الذهاب وراء هذه المهمة المستحيلة التي تتعارض مع حسابات ومصالح الكبار الممسكين بخيوط اللعبة؟
يتعهد ميثاق الأمم المتحدة ببناء منظومة أممية استفادت من تجارب حربين عالميتين ويروج للسلم الجماعي والتضامن الدولي والأمن والاستقرار وقواعد القانون الدولي، لكن ما يدور على ألسنتنا جميعا اليوم هو هل تلجأ روسيا إلى استخدام أسلحة الدمار النووي كما تهدد وهل سيبقى الغرب صامتا عندها دون الرد؟
سلاح اللاعب الدولي الأهم في جعبته قد يكون مخزونه النووي لكن سلاحه الأكثر فتكا وخطرا هو الإمساك بالمقدرات والثروات والتحكم بمسارها ومستقبلها. مستقبلنا تحت رحمة حركة هذه الثروات قبل أن يكون تحت تأثير تهديدات الأسلحة الفتاكة، لأن من يجلس فوق خزانات الطاقة والموارد الغذائية ومنابع الثروات الطبيعية هو الذي سيحدد شكل القواعد الواجب تطبيقها في المرحلة المقبلة. الأمم المتحدة ستكون مجرد أداة تنفذ له ما يريد وهو يتقاسم الأرباح أو يوزعها بمعرفته وما سيحتاجه هو الغطاء القانوني والسياسي والأخلاقي والإنساني وهذا ما ستزوده به أجهزة المنظمة الأممية بكل طيبة خاطر. أين وكيف تعاملت الأمم المتحدة مع العشرات من حالات التوتر والتصعيد والحروب والكوارث منذ أواخر الأربعينيات وحتى اليوم في أكثر من بقعة جغرافية؟ وهل هي كانت من يقرر ويقود أم القوى الممسكة بالثقل العسكري والاقتصادي والقانوني؟
فشلت الأمم المتحدة في مواجهة الدول الكبرى التي أمسكت بخيوط العولمة وتركتها ترسم قواعد اللعبة
أهم تحديات المجتمع الدولي اليوم ليست تحديث وتطوير الأمم المتحدة. الأولوية ينبغي أن تكون للتعامل مع تحولات وديناميات العولمة بكل فصولها وتشعباتها وارتداداتها وإسقاط سلبياتها وهي لا تعد وتحصى.
فشلت الأمم المتحدة في مواجهة الدول الكبرى التي أمسكت بخيوط العولمة وتركتها ترسم قواعد اللعبة، وكل محاولة إصلاح أو تحديث في عمل المنظمة لا بد أن يمر عبر هذه القوى ويأخذ بما تقوله وتريده. قواعد اللعبة كانت تعلن قبل نزول الفرق إلى الساحة. بدأ البعض يفرض تغييرها أثناء المباريات وغير عابئ بما يقوله الآخر. اليوم يقول لنا إن نتيجة المباريات هو الذي سيحددها ويفرضها كما يشاء حتى ولو خسر الفريق الذي يدعمه ويراهن عليه. كيف تصرفت أميركا في التعامل مع ملف القضية الفلسطينية والأزمة في العراق؟ وكيف تصرفت روسيا في الموضوع الأفغاني والأوكراني وفي البلقان والقرم رغم كل القرارات الإلزامية الصادرة عن مجلس الأمن الدولي؟
كل المؤشرات تقول إننا نسير باتجاه سقوط المنظمة عند أول امتحان حقيقي ينتظرها. القوة الرادعة لموسكو في عدم تنفيذ تهديداتها بالصواريخ النووية ضد أوكرانيا ليست المنظمة الأممية بل الطرف الآخر والموازن الحقيقي لروسيا في المعادلة.
فشلت الأمم المتحدة في تحديث بنيتها وهيكليتها وعمل مؤسساتها مثل الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولي والأمانة العامة والتكيف مع متطلبات وحقائق الحقبة المقبلة. ودورها يتلاشى ويتراجع يوما بعد آخر والدليل هو مضمون الكلمات التي ألقيت من على منبر هذا الصرح قبل أيام وكلها تلتقي عند ضرورات التحديث والتطوير العامودي والأفقي وإعادة بناء المنظمة من الألف إلى الياء.
نحن بحاجة إلى أمم متحدة ذات مشروعية وعالمية محمية بقواعد قابلة للتطبيق وحماية مصالح الدول الاعضاء لا أن تكون هي عبئا عليهم وعقبة في طريق حماية مصالحهم وحقوقهم السيادية تحت غطاء قانوني وسياسي قابل للتطبيق والاحترام.
أول وأهم من ألحق الضرر بالنظام العالمي الذي ظهر إلى العلن بعد الحرب العالمية الثانية كان العواصم الأوروبية نفسها التي بحثت عن ضالتها في مكان آخر لحماية مصالحها بعدما شعرت بضعفها في نظام القطبين والحرب الباردة الأميركية السوفييتية. تحركت أوروبا وبدلا من العمل على إصلاح داخل المنظمة الدولية عملت على إنشاء المجلس الأوروبي عام 1949 ثم وضعت أسس الاتحاد الأوروبي عام 1951 في باريس ليصبح اليوم مشروع تكتل ثالث في مواجهة النفوذين الأميركي والروسي. لكن ارتدادات الحرب الروسية - الأوكرانية أثبتت أنها لن تعيد لأوروبا، وتحديداً للاتحاد الأوروبي، مكانته في صياغة نظام دولي جديد بعدما تحركت واشنطن لإلزام الجميع بالوقوف خلفها في مواجهة موسكو في أوكرانيا. تكتلات إقليمية أخرى برزت إلى العلن في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة مثل جامعة الدول العربية ومنظمة الدول الأفريقية ومنظمة الدول الإسلامية في محاولة لحماية مصالح الدول الأعضاء. وهي رغم ثقلها البشري والاقتصادي والجغرافي عجزت عن تسجيل أي اختراق استراتيجي حقيقي في لعبة التوازنات العالمية.
يتصرف الكبار وكأن المنظمة الأممية موجودة لإعطائهم ما يريدون أكثر من الوقوف إلى جانبها في تنفيذ مبادئ وأسس الميثاق الأممي. الميثاق ينص على عدم اللجوء إلى القوة العسكرية أو التلويح بها لحسم النزاعات خارج الدفاع المشروع عن النفس واستخدامها في إطار الأمن الجماعي، أي بقرار من مجلس الأمن وتحت إشرافه. ما فعلته أميركا في العراق وتفعله روسيا في أوكرانيا لم يكن سوى انتهاك لمواد الميثاق وما يروج له من مبادئ وقواعد في إطار ما سمي بالقانون الدولي لكن الفشل والعجز هو الماثل أمام الأعين.
ترفض الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن التخلي عن "مكسب" حق النقض الذي حصلت عليه قبل عقود رغم تبدل التوازنات ولعبة القوى والنفوذ الدولية. عرقلت الوصول إلى تفاهمات وتسويات وحلول لعشرات مشاريع القرار في أزمات وقضايا أمنية وسياسية وإنسانية لصالح مصالحها أو مصالح شركائها دون تردد. أشارت آخر إحصاءات الأمم المتحدة إلى 265 إعاقة من قبل الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن باللجوء إلى "فيتو" الدولة الواحدة التي تفرض رأيها على 14 دولة أخرى تحت سقف المجلس، لكنها في الأصل تفعل ذلك في مواجهة 192 دولة داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقف المندوب السوفييتي والروسي 121 مرة ليحسم النقاش على طريقته، بينما فعل المندوب الأميركي ذلك 82 مرة، وكانت حصة بريطانيا 29 أما الصين فرفعت يدها 17 وفرنسا 16 مرة. الآن توضحت الصورة أكثر حول لماذا يقف الأمين العام للأمم المتحدة متشائماً وهو يتحدث عن صعوبة تحقيق أي اختراقات حقيقية في ملفات وأزمات مزمنة أو انفراجة ملموسة في ملف الأزمة الأوكرانية كما قال قبل أيام. لو كان هناك إلزامية حقيقية في تطبيق قرارات الأغلبية وقوة ردع قانونية وسياسية ومساءلة حقيقية لما كان غوتيريس يتحدث بهذه الطريقة ربما.
تقول واشنطن اليوم إنها جاهزة لبحث مسألة الإصلاح في مجلس الأمن الدولي وزيادة عدد أعضائه عبر إضافة اليابان وألمانيا والهند. الإصلاح الحقيقي لن يكون بزيادة عدد الدول الأعضاء بل بمراجعة نظام حق النقض وتفعيل آلية تنفيذ القرارات وإعطاء الجمعية العامة المزيد من الثقل والدور وإلزامية تنفيذ قرارات محكمة لاهاي قبل كل شيء.
نجحت المنظمة في تحقيق خطوات سياسية وإنسانية واجتماعية تنظيمية مهمة في العلاقة بين الدول والشعوب لناحية برامج الإغاثة والدعم الإنساني ومواجهة الفقر والجوع وقرارات البيئة والمناخ وإنشاء العشرات من الوكات المتخصصة في هذه المسائل. وحاولت المنظمة أيضا في العام 2015 أن تطرح مشروع ميثاق جديد لعالم أفضل في العام 2030 لقي الترحيب والدعم. لكن مشكلتها بقيت في عدم اقترابها كثيرا من البحث عن التغيير والتجديد في العقلية والبنية والهيكلية التي اعتمدتها قبل 8 عقود وتطويرها بعد. أقرت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 مثلا بكل ما يتضمن من مواد وأفكار وطروحات إيجابية، لكنها فشلت في تطبيق النصوص والمواد وترجمتها إلى خطوات عملية قانونية وسياسية واجتماعية ملزمة.
هناك كيانات كثيرة لم تقبل كدول تحت سقف المنظمة والمساومات حولها هي سياسية على حساب الحق التاريخي والإنصاف والعدالة التي تراجعت لصالح لعبة التوازنات والمساومات
المراجعة الحقيقية تبدأ بالعودة إلى نص وروح الميثاق ومقارنتها بوضعية اليوم ومتطلباتها. هل المطلوب هو بناء نظام "عالمي" جديد أم نظام "دولي" جديد؟ ثم هناك نقاش لم يكتمل منذ العام 1945 وحتى اللحظة. هناك كيانات كثيرة لم تقبل كدول تحت سقف المنظمة والمساومات حولها هي سياسية على حساب الحق التاريخي والإنصاف والعدالة التي تراجعت لصالح لعبة التوازنات والمساومات والصفقات داخل أروقة مجلس الأمن وملف القضية الفلسطينية هو الأبرز هنا. ثم هناك مسألة كيف جرى التعامل منذ 77 عاما وحتى اليوم مع مبادىء الشرعية وفكرة الشمولية وتحديد قواعد تطبيق مواد الميثاق الأممي حول التمثيل العادل والقدرة على المبادرة والإلزام / أو الالتزام بالتنفيذ ومشاريع وخطط تحديث وتفعيل عمل المؤسسات داخل هذا الصرح؟
يقال إن الأمم المتحدة هي التي جنبت العالم أكثر من مرة اندلاع حرب عالمية ثالثة. الذي فعل ذلك هو أحيانا جهود الأمين العام لكن من حال دون ذلك هو لعبة التوازنات والصفقات والمساومات بين الدول الكبرى قبل كل شيء.
عودة إلى خط البداية. الإجابة على تساؤل التحديات التي تواجه النظام العالمي الجديد ينبغي أن تكون لدى شعوب المجتمع الدولي وليس لدى منظماته وتكتلاته والدول الكبرى التي تتحكم بإدارة شؤون المنظمة وتوجهها كما تشاء.
نظام التعددية القطبية الذي يتفاعل ويتشعب وينتشر بين القارات والجغرافيا السياسية والاقتصادية والعرقية والدينية هو البديل الأقرب لإدارة لعبة التوازنات الحاصلة والذي سيدفع الثمن هو هذا الصرح الدولي قبل غيره.
منظر فوهة البركان القابل للانفجار في كل لحظة هو الأقرب، والسيف المسلط سيبقى فوق رؤوسنا إذا لم نقدم لأبطال النظام العالمي الجديد ما يريدون أو حاولنا عرقلتهم. 77 عاما من الخلل والإجحاف والعجز أوصلت المشهد العالمي إلى هذه الدرجة من التعقيد والخطر. إبعاد شبح الحروب والويلات يتطلب انتفاضة عالمية شمولية تبدأ بالفرد والأسرة والمحيط بصبر وثبات لبناء الإنسان العالمي قبل البحث عن سبل بناء المنظمة العالمية.