عرفت البشرية عبر تاريخ تطورها كثيراً من أنظمة الحكم السياسية، سواء كانت ملكية أم جمهورية، هذه الأنماط التي سيطرت عليها لفترات محددة سلطات شيوعية أو فاشية أو نازية أو دكتاتورية، بينما كانت النظم الديمقراطية هي الأكثر استقراراً وديمومة، أما ما نشهده في سوريا "الأسد"، فهو خليط غريب من أنظمة حكم الطغيان التي عرفتها البشرية، فقد استفادت من النازية في وسائل تعذيبها وإبادتها، ومن الفاشية في تمجيدها، وحتى تأليهها لـ "الزعيم" ومن الشيوعية تنظيمها المرعب الأمني وابتلاعها للدولة وخنقها للمجتمع. ويمكن القول إنها كوّنت طبعة فريدة تضمنت أسوأ ما في أنظمة الطغيان تلك وبصيغة مطوّرة، لتنتج ما يمكن تسميته الأسدية التي يعاني السوريون من فظائعها منذ خمسين عاماً.
تشكل السلطة الأسدية نظاماً خليطاً من كل ما سبق، بل طورت أساليب جديدة في أنماط الحكم والسيطرة، ويكاد تحليلها يبدو منقوصاً حال نسبها إلى أي نمط سابق من أنماط الحكم وحده أو مقارنتها به، إذ يوصلنا بنتيجته إلى وسم هذا النظام بسمات مختلفة، من أنه طائفي، وآخر بأنه دكتاتوري أو برجوازي طفيلي، ومن جهة أخرى نظام عميل، وغيرها من الصفات التي لا تعبّر كل واحدة منها عنه، وهذا يفرض علينا التعامل مع الأسدية من منظور أشمل.
تتشكل هذه الشبكات أولاً من ضباط المخابرات، الذين ينحدر غالبيتهم من منبت واحد. ويعد هؤلاء الضباط الشريحة الأولى الأقرب لرأس النظام (نواته)، ومن يقدم الاقتراحات والتوصيات لرأس النظام، ويتابع عمل الشرائح البقية
لا شك أن أي نظام أو دكتاتور لا يحكم بمفرده، وإنما بحاجة إلى أدوات مساعدة، أو شبكات تؤدي المهام المطلوبة ضمن آلية معينة تحقق في النهاية غايات هذا النظام أو ذاك، وتتوزع هذه الشبكات إلى صلبة وأخرى ناعمة. تقوم شبكة الأسدية على العائلة، التي تمثل النواة الصلبة للنظام، فهي صاحبة القرار النهائي، وبين يديها تتجمع كل الخيوط مع الأطراف الأخرى، هذه الأطراف التي لا تتمتع بعلاقات فيما بينها سوى علاقات المراقبة والتجسس. أما ما يحكم العلاقة بين العائلة والشبكات فهي علاقات معقدة ثنائية الاتجاه مع بعض الشبكات (الولاء مقابل الفائدة) وأحادية مع بعضها الآخر (الطاعة مقابل الخلاص).
وتتشكل هذه الشبكات أولاً من ضباط المخابرات، الذين ينحدر غالبيتهم من منبت واحد. ويعد هؤلاء الضباط الشريحة الأولى الأقرب لرأس النظام (نواته)، ومن يقدم الاقتراحات والتوصيات لرأس النظام، ويتابع عمل الشرائح البقية، كما يقومون بالتجسس على بعضهم بعضاً، وعلى قادة الفرق وضباط الجيش، وعلى عموم الناس، فضلاً عن تعيين الوزراء وإعداد المقترحات اللازمة، وتعيين كبار الموظفين، من دون نسيان موافقتهم على الترشح لعضوية مجلس الشعب، وإيصال من يريدون إليه. يليهم في الأهمية والقرب من نواة النظام قادة الفرق العسكرية، الذين ينحدر غالبيتهم أيضًا من المنبت ذاته، تلك الطريقة ابتدعها حافظ الأسد وكانت ناجعة في إنهاء حالة الانقلابات في سوريا.
الفئة الثالثة ذات الأهمية لنواة النظام هي رجال الأعمال الكبار (البرجوازية الجديدة)، التي أسهم النظام في أواخر عهد حافظ الأسد وبدايات حكم بشار بإنشائها من خلال القوانين الليبرالية الجديدة التي سنّها النظام لخلق ترتيبات وقواعد تسهم في تشغيل الأموال المنهوبة، وخاصة من الشخصيات العسكرية والمقربة من النظام. كانت هذه التشريعات التي سمحت بتأسيس المصارف الخاصة والشركات القابضة الكبيرة الباب الذي دخلت منه الشخصيات الجديدة المقربة من النواة التي قلبت في الغالب ما كان سائداً أيام حافظ الأسد، وهو الاستقلالية النسبية للقطاع الاقتصادي مقابل تقديم الولاء ودفع الإتاوة، وعملت على إدخاله تحت سيطرة النواة مباشرة عبر شخصيات تربطها علاقات قرابة وغيرها مع العائلة.
تأتي في المرتبة الرابعة الكتلة الكبيرة التنفيذية في أجهزة القمع: المخابرات والجيش، وخاصة المتطوعين منهم، إذ أطلق النظام يديها في مواجهة الناس، كونها ذات العلاقة المباشرة بأكثرية السكان، والبوابة للوصول إلى كبار الضباط مقابل الأموال والهدايا العينية، وما يحكم العلاقة مع النظام هي الولاء والتنفيذ من دون السؤال مقابل إطلاق يديها في سلب ونهب وتعذيب من تطولهم أيديهم، ناهيك عن سَلْبَطتهم على مختلف القطاعات المتوسطة والصغيرة. وبالمجمل، فقد قامت هذه الشريحة بدور كبير في ملاحقة وتعذيب البشر، وكانت من الأركان المهمة في الحفاظ على سلطة النظام.
يمكن تصنيف الفئات السابقة تحت فئة القوة الصلبة التي تسيطر على البلاد، تلك السيطرة التي تحتاج إلى قوة ناعمة تروّج لخطاب النظام وتبرره، وتأخذ الواجهة الشكلية للحكم وهي تدرك أنها بلا حول ولا قوة، وأنها من صنع النظام ممثلاً بنواته وضباطه القادة. ويبرز من تلك القوة رجال الدين والوزراء وكبار الموظفين الذين لا يصلون لمناصبهم من دون الرشاوى والعلاقات الرخيصة مع كبار الضباط، وهمهم الأول إرضاء سادتهم مقابل السماح لهم بتكديس ما تيسر من ثروة خلال فترة وجودهم في المنصب، ناهيك عن تلبس الدور البشع لتبرير الأفعال البشعة التي ترتكبها المنظمة الأسدية متمثلة بنواة النظام وضباطه.
يمكن تصنيف الفئات الواردة سواء كانت الخشنة أم الناعمة على أنها قوة الطغيان، التي يركن في مقابلها ما يعرَف بباقي فئات الشعب
أما الفئة ما قبل الأخيرة فيمكن تسميتهم الحويصة (الموظفون البعثيون والمخبرون والعاطلون عن العمل والمهربون) وعليهم تقع مهمة تسيير الأعمال اليومية بالطريقة التي يرونها مناسبة، بعلاقة سيئة مع الناس مقابل الخنوع لرجال الأمن و"الجهات المختصة"، إضافة إلى مهمة تجميل أي فعل من "السيد الرئيس" مهما كان قبيحاً، ووصفه بأنه "تاريخي" كونه أكثر المصطلحات رواجاً بين متكلميهم، وصدى للحديث عن المؤامرة التي يتعرض لها بلد "سيادته"، لكنهم من جهة ثانية وهي المهمة، فقد كانوا الرافد الحقيقي بالقوة البشرية لقوى القمع، وخاصة بعد حالات الانشقاقات الفردية الكثيرة، مقابل السماح لهم بأعمال الزعرنة في أحيائهم وبلداتهم مع قليل من العطايا التي يتكرمون بها عليهم.
يمكن تصنيف الفئات الواردة سواء كانت الخشنة أم الناعمة على أنها قوة الطغيان، التي يركن في مقابلها ما يعرَف بباقي فئات الشعب، (وهم ليسوا ذلك القطاع الفاسد في قوائم الجبهة الوطنية للترشيح لمجلس الشعب)، وإنما عموم الناس البسطاء الذين لم ينخرطوا في شبكات الفساد والزعرنة الحاكمة، وحتى من انخرط جزئياً منهم، فنصيبهم معروف وهو تلقي الصدمات والإهانات ودفع الإتاوات ابتداء من أي موظف صغير فصاعداً، وهم الفئة التي راكمت من القهر ما يكفي لأن تنفجر في ربيع 2011 رداً على الانتهاكات والإهانات الفظيعة التي يمارسها بحقهم كل أطراف السلطة وفي عموم قطاعات الحياة.
ربما يتبين لنا بعض من أسباب إخفاق الثورة في عدم إنجاز ما نادت به، فعدا العوامل الخارجة عن إرادة السوريين المتمثلة بالأطراف الخارجية، كان هناك ثمة قصور في فهم تركيبة المنظومة الأسدية المعقدة القائمة على الروابط المذكورة أعلاه، وهو ما دفع بعضهم إلى التركيز على عامل دون آخر. إن محاولة فهم هذه التركيبة الشبكية المعقدة والفريدة للأسدية يساعد على محاولة تفكيكها والخلاص منها، فمن الضروري العمل على المستويات (السياسية والعسكرية والإعلامية) كلها بشكل منسق، طالما يتعذر توحيد الجهود، والعمل على بناء شبكة نظيرة من العلاقات بين المتضررين من الأسدية، وهم الغالبية، إضافة إلى بناء العلاقات الإقليمية والدولية، والكف عن توجيه الاتهامات، وتصوير الذات كضحية، الذي قد يجلب التعاطف، لكنه بالتأكيد لن يحقق أي شيء لقضية السوريين في تحررهم.