منذ استيلاء نظام الأسد على السلطة، لم يعتد التنازل إلا في حالة الخطر الوجودي على كيانه وسلطته، فهو يتمسك بـ"ثوابته" حتى يدهمه الخطر، حينها تنقلب هذه الثوابت إلى متغيرات، ويكسر محرماته وينقلب على مواقفه.
ولهذا شواهد كثيرة لا مجال لذكرها هنا، لكن يكفي التذكير بانسحابه المهين من لبنان ليكون مثالاً صارخاً على ذلك، فهذا النظام اعتمد البراغماتية ديناً لدولته ولرئيسها.
الأسد يغير جلده خوفاً وطمعاً بعد حرب غزة
لقد شكل إعلان عمَّان خريطة الطريق للتطبيع العربي مع الأسد، فيما سمي آنذاك بالمبادرة العربية التي احتوت على أسس الحل السياسي للملف السوري وفق القرار 2254 واللجنة الدستورية. لا شك أن الأسد في الظاهر حقق اختراقاً دبلوماسياً أعطى إعلامه مادة دسمة للتحليلات، ولكنه أغفل كالعادة بنود المبادرة العربية، وهو الباطن الذي يخشاه. ناور عليه وراوغ في تنفيذ بنوده أو حتى الاعتراف أصلاً بوجود ما هو مطلوب منه، مما استدعى غضباً عربياً وعودةً للجليد ليغطي انطلاقة مسار التطبيع مرة أخرى.
لكن اندلاع الحرب القذرة على غزة بعد 7 أكتوبر غيّر حسابات الأسد كلياً عندما شعر بجدية إسرائيل تجاه حماس والتحذيرات، بل والتهديدات، التي أتته منقولة عبر أكثر من طرف عربي ـ الإمارات واحدة منها ـ مفادها (لا تتدخل في غزة وأي تحرك على أراضيك سيكون رأسك الثمن). أسقط في يده وشطب غزة وفلسطين (القضية التي تاجر بها ومن خلالها طوال عقود) من قاموسه الخطابي وقاموس إعلامه، وغابت المسيرات الداعمة للمقاومة وفلسطين غياباً تاماً.
بدأ يتخذ خطوات يبتعد فيها شكلياً عن إيران ليعطي انطباعاً أنه لا يوافقها في حرب غزة. ومع مرور الوقت، تراكمت أزمات الأسد عندما بدأت إسرائيل بمسلسل الاغتيالات لقيادات حساسة في الحرس الثوري، وتصاعدت حدتها وصولاً لضربة القنصلية الإيرانية، تلك الضربة القاسية على طهران حيث فقدت أهم القيادات والضباط المسؤولين عن قيادة العمليات في سوريا. إيران اتهمت الأسد صراحة بأن أجهزته هي التي قامت بتسريب المعلومات. عند ذلك، بدأ الأسد بتحركات وتغيرات أمنية وعسكرية وإعادة هيكلة لأجهزته الأمنية، محققاً من خلال ذلك عدة أهداف؛ يرضي إيران التي تتهمه بتسريب المعلومات ويوحي للعرب أنه يقوم بتغيرات تماشياً مع المبادرة العربية.
هذه التغيرات الأمنية والعسكرية والحزبية وإعادة تشكيل رقعة النظام وتوزيع المكاسب والمناصب يمكن القول إنها كانت خوفاً من تحركات إيرانية باتت معلنة، وطمعاً بالأموال التي يسيل لعابه عليها من دول الخليج لإيقاف الكبتاغون وسواها من المطالب والوعود. لكن سرعان ما عادت طهران مرة أخرى لتخنق تلابيبه باستمرار التهريب، وزادت عليها السلاح، وأظهرت الأسد على أنه إكسسوار إيراني لا أكثر.
اندلاع الحرب القذرة على غزة بعد 7 أكتوبر غيّر حسابات الأسد كلياً عندما شعر بجدية إسرائيل تجاه حماس والتحذيرات، بل والتهديدات، التي أتته منقولة عبر أكثر من طرف عربي.
رياح الجنوب تخيف الأسد وقدوم ترامب يحرك الدول لتغيير تموضعها
هناك حدثان حركا المياه الراكدة في الملف السوري الذي يعاني من الاستنقاع منذ فترة طويلة؛ فارتفاع احتمال عودة ترامب إلى البيت الأبيض بدأ حقيقة على الجميع التعاطي معها بجدية، وحرب إسرائيل المحتملة على حزب الله/إيران والصفقات التي ستنتج عنها أو عن تفاديها والتي ستدخل الأسد في تحدٍ آخر. فإما الدخول في حرب المرشد وبالتالي سيتحقق تهديد إسرائيل، أو عدم الدخول عندها مصير علي عبد الله صالح بانتظاره إيرانياً، ويخشى أيضاً أن يكون ثمناً لأي صفقة بين إيران والولايات المتحدة إذ إن جوهرة التاج عند إمبراطورية الملالي هي حزب الله وليس الأسد.
في كلتا الحالتين، يعرف الأسد أن ثمن الاختيار سيكون غالياً جداً. لذلك يسارع ويسابق الزمن لصناعة معادلات جديدة تحميه. بناء عليه، تغيرت ثوابته تجاه التطبيع مع تركيا وأصبح منفتحاً ومنساباً كالماء. وعلى المقلب الدولي والإقليمي، فإن احتمالات عودة ترامب التي باتت شبه مؤكدة عند كثيرين أجبرت الدول الفاعلة على إعادة تموضعها أو على الأقل التفكير بذلك وترتيب أوراقها تجاه هذه العودة، لا سيما أن ترامب لديه عقيدة الانسحاب من الشرق الأوسط ومن سوريا. لذلك على كل الفاعلين في سوريا دراسة إمكانات تموضعهم تجاه هذا الاحتمال.
أصبح الأسد ورقة ملحقة بأي صفقة، كما كان ورقة ملحقة في الاتفاق السعودي الإيراني، فإنه ورقة ملحقة بالتفاهمات التركية الروسية التي تحركت على وقع قدوم ترامب للبيت الأبيض بعد 150 يوماً تقريباً.
الأسد خاوي الوفاض يدخل حلبة بوتين/أردوغان
هل يستطيع الأسد إعطاء أي مكاسب لتركيا؟ وما الذي سوف تكسبه تركيا؟ هذه الأسئلة وغيرها تتردد في أوساط المحللين والمراقبين. فقد خلقت التصريحات التركية حالة من الاضطراب في فهم ما الذي تغير؟ الإجابة تكمن ضمن السياق الذي أوردناه سابقاً. فإن الأسد الآن بات في مرحلة التنازلات لأنه يشعر بالخطر، وعليه أن يرتب لنفسه أي صفقة تحميه أو تقيه من الرياح العاصفة القادمة أو من أن يكون ثمناً لصفقة ما بين الكبار.
ومن جانب آخر، أصبح الأسد ورقة ملحقة بأي صفقة، كما كان ورقة ملحقة في الاتفاق السعودي الإيراني، فإنه ورقة ملحقة بالتفاهمات التركية الروسية التي تحركت على وقع قدوم ترامب للبيت الأبيض بعد 150 يوماً تقريباً.
لا سيما أن الملف السوري محكوم بقواعد لأي حل مهما كان سيكون وفق القرار 2254. وقد رأينا أن المسار العربي الذي أعطى الأسد مكاسب سياسية محدودة، ولكنه أجبر بالنهاية على بيان عمان الذي حدد قواعد الحل. وكذلك الجمهورية التركية التي رسمت أكثر من مرة وعلى لسان مسؤوليها إن كان وزير الدفاع أو الخارجية أن الانسحاب التركي سيكون حينما يتم إقرار الحل السياسي وفق القرار 2254 واللجنة الدستورية وإجراء انتخابات.
وفق المعادلات التي تحكم زمن الأسد، لم يعد على الأقل ذلك الذي يلعب على المحاور الدولية والتناقضات. الحاجة ليست له بل لحل الملف السوري وإعادة الهدوء لهذه المنطقة وترتيب أوراق الإقليم. لم يعد الأسد ذلك الذي يستطيع أن يهرب من حضن إلى حضن، بناء على مصطلحاته وسياسة الأحضان التي قالها في خطابه في جدة.
واعتماداً على السردية التي أوردناها في المقدمة والأمثلة التي ضربناها، نجد أن الأسد يشعر الآن أن تهديداً حقيقياً له سيندلع في جنوب لبنان، ورياحه الساخنة ستشعل كوم القش الذي يجلس فوقه. فمنذ سنة ونحن نسمع تصريحات النظام عن شروطه "الإيرانية طبعاً" على أن أي خطوة تجاه تركيا يجب أن تبدأ من انسحاب تركيا من الشمال، لكن على توقيت جنوب لبنان كل الحسابات ستختلف، وكل الشروط الصلبة ستتحول تدريجياً إلى سيولة تتقبل كل "المبادرات" من روسيا، على حد تعبير الأسد بعد زيارة لافرينتيف مبعوث الرئيس الروسي.
الظروف التي دفعت الأسد للنزول من على شجرته باتت مكشوفة للجميع. فهو دخل في معادلات مستحيلة عربياً وإقليمياً ودولياً. فلا عجلة التطبيع العربي ستدور لتدر له أموالاً ساخنة إلا وفق الشروط العربية، ولا إيران مقتنعة أن ولاءه لها كاملاً، خاصة بعد أن غمز المرشد خامنئي من قناته في كلام واضح عن وعود غربية كاذبة تقدم لدمشق لتخرج من محور المقاومة، بل يهدد باسمه على منبر الأمم المتحدة "إن حصلت حرب على لبنان فإن محور المقاومة سيدخل حرباً مفتوحة"، على حد تعبير مندوب إيران الدائم في الأمم المتحدة. ولا هو يستطيع تجاوز مذكرة الجلب والإحضار الفرنسية وقوانين الولايات المتحدة الأميركية التي تحاصره من كل جانب.
بعد أن اجتمعت كل المبادرات العربية والعراقية والروسية والتركية على أن حلاً يجب أن ينهي الملف السوري، فكل ما يجول في خاطر النظام وبشار الآن هو أن كل خياراته أحلاها مر. الحل السياسي سينهي نظامه، والنار التي ستشتعل جنوباً ستجعله مخيراً بين مصير علي عبد الله صالح أو قاسم سليماني. فهل ستحمل الأيام مفاجآت أخرى كما حدث للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في طائرة مروحية؟