في حين تطالب تركيا بضمانات لبلوغ حلّ سياسيّ واضح المعالم في سوريا، يشترط نظام الأسد تحديد موعد للانسحاب التركي الكامل من الأراضي السورية.. وهو ما يعرقل حتى الآن انعقاد الاجتماع الرباعي المقبل على مستوى وزراء خارجية روسيا والنظام السوري وإيران وتركيا في مسار تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق.
روسيا تقول إنّ الاجتماع كان مقرراً منتصف شهر نيسان (أبريل) لكنّ انعقاده تعثّر. لا تكشف موسكو أسباب التأجيل، لكن الأوساط التركية تعتبر أنّ الانفتاح العربي المستجدّ على النظام السوري، أعطى الأسد جرعة أمل في كسر عزلته، ولهذا لم يعد النظام متحمساً إلى عقد هذا الاجتماع إلاّ بشروطه.
على رأس الشروط التي يضعها نظام الأسد، انسحاب الجيش التركي من الأراضي السورية، وهو ما ترفضه أنقرة، ولا تعترض عليه موسكو في ذلك، باعتباره شرطاً مسبقاً قد ينسف محادثات التطبيع أو يأخذها إلى زواريب غير مستحبّة.
أمّا تركيا، فردّت على "شرط الأسد" الذي يبدو تعجيزياً في هذا التوقيت، بالإعلان أنّ عملياتها العسكرية ستتواصل داخل الحدود وخارجها إلى حين القضاء على آخر تهديد إرهابي لها، كاشفة أنّها تتبنى 3 قضايا رئيسية في سبيل نجاح محادثات التطبيع مع الأسد، وهي:
1. التنسيق مع النظام في الحرب على الإرهاب: تقول أوساط دبلوماسية تركية إنّ الوجود العسكري التركي شمال سوريا ليس احتلالاً. بداية الأزمة السورية، كان هدف تركيا إيجاد حلّ شامل للأزمة، وكان نداء أنقرة أن يكون هذا الحلّ سياسيا لا عسكرياً.. لكن ما الذي استجد لتحوّل تلك الدعوة إلى حملة عسكرية داخل سوريا؟
تردّ المصادر الدبلوماسية بالقول، إنّ بعد العام 2015 لم يعد النظام مسيطراً على شمال سوريا، ودخلت تنظيمات إرهابية مثل (حزب العمال الكردستاني) وفرعه السوري وحدات حماية الشعب أو مثل "داعش" إلى المشهد السوري، وهذا ما اضطر الجيش التركي إلى دخول الأراضي السورية.
لا ترفض أنقرة فكرة الانسحاب كلياً، لكنّها تشترط لنجاح ذلك "زوال هذا الخطر"، لأنّها لا تملك ترف بقاء جيشها خارج الحدود وتكبّد تكاليف هذا الوجود
بناء عليه، أجرت أنقرة أكثر من عملية عسكرية للقضاء على هذه المجموعات القابعة على حدودها. ومنذ العام 2013 وحتى العام 2019 نفذت أنقرة 3 عمليات عسكرية كبيرة، وكان الهدف منها "منع تلك المجموعات من العودة إلى المناطق المحررة"، وهذا ما اضطرّها أيضاً إلى التمركز عند نقاط محددة في الداخل السوري.
لا ترفض أنقرة فكرة الانسحاب كلياً، لكنّها تشترط لنجاح ذلك "زوال هذا الخطر"، لأنّها لا تملك ترف بقاء جيشها خارج الحدود وتكبّد تكاليف هذا الوجود، على رغم تحصّنه بموجب المادة 51 من شرعة الأمم المتحدة التي تجيز للدول حماية حدودها.
فبموجب تلك المادة، تعتبر أنقرة أنّ وجودها العسكري في سوريا هو حماية الداخلي التركي وهذا مُتّفق عليه بموجب "محادثات أستانة".
2. دفع العملية السياسية من خلال محادثات أستانة: تعتبر أنقرة أنّ "محادثات أستانة" هي المسار الحيّ الوحيد لأيّ حلّ سياسي في سوريا. في نظرها، فإنّ تلك المحادثات غير متوقفة، بل مستمرة لكن ببطء. وهي تعوّل عليها كثيراً برغم تقارب الدول العربية مع نظام الأسد مؤخراً، وبرغم هذا التقارب فإنّ إصرار تركيا مستمر ولن يُترجم بأيّ شكل من الأشكال تخلياً عن "محادثات أستانة" لأنّها أساسية من أجل الوصول إلى حلّ للأزمة السورية.
وفي هذا الصدد تكشف المصادر التركية أنّ الحرب الأوكرانية "كانت سبب تراجع تلك المحادثات"، التي كانت "قاب قوسين أو أدنى من إعادة صياغة دستور جديد" للجمهورية السورية، لكن الحرب أدت إلى تجميد كل شيء، خصوصاً أنّ روسيا أوقفت مشاركتها في المحادثات، وحوّلت اهتمامها إلى سير المعارك في أوكرانيا.
في موازاة ذلك، كان منسوب "الخطر الإرهابي" يرتفع على الحدود التركية - السورية ويهدد الأراضي التركية، خصوصاً أنّ أنقرة لم تجد أيّ دعم من حلفائها في حلف شمال الأطلسي "الناتو". حتى الولايات المتحدة الموجودة في شمال سوريا وهي حليفة كبيرة لتركيا (هكذا يُفترض)، كانت تدعم المجموعات الكردية بالسلاح بحجة محاربة تنظيم "داعش".
هذا ما أوجد لأنقرة سبباً جوهرياً للانفتاح على النظام. وجدت تركيا قاسماً مشتركاً مع النظام هو "دفع خطر الإرهاب"، وحماية سوريا من التقسيم. تعتبر أنقرة أنّ "محاربة داعش"، حوّلت المجموعات المسلحة الكردية إلى قوة كبيرة مدعومة من واشنطن بالأسلحة المتطورة، وبالتالي ستكون تهديدا مباشرا للأمن الداخلي التركي.
بداية الأزمة، أعلن نظام الأسد أنّه "يكافح" الإرهاب، وبالتالي أمسى كل من يدعم المعارضة بمنزلة "الداعم للإرهاب"، وبالتالي فإنّ هذا ما دفع نظام الأسد إلى اتهام القوات التركية بأنّها قوات احتلال، ولهذا أيضاً يطالب اليوم بانسحاب الجيش التركي من شمال سوريا.
وتضيف المصادر أنّ بدء المحادثات بين تركيا والجانب السوري لا يعني أبداً أن أنقرة غيّرت سياستها أو نظرتها إلى النظام السوري، لكنّ جلّ ما تصبو إليه اليوم، هو الحوار مع النظام من أجل مكافحة الإرهاب ومتابعة المسار السياسي المرسوم لسوريا عبر الأمم المتحدة، "فلا يظن أحد أنّ أيّ لقاء مع النظام السوري هو لنسف المسار السياسي السابق أو تخلٍ عنه".
الوجود السوري داخل تركيا يشكّل مادة دسمة للرأي العام التركي، ووسيلة فعالة من أجل تسلّق المعارضة على حساب الحزب الحاكم
3. ضمان العودة الآمنة والكريمة للاجئين السوريين: تعتبر أنقرة أنّ ملف اللاجئين السوريين هو ملف سيؤثر على مسار العملية الديمقراطية في تركيا، وتحديداً على الانتخابات الرئاسية المنتظرة.
الوجود السوري داخل تركيا يشكّل مادة دسمة للرأي العام التركي، ووسيلة فعالة من أجل تسلّق المعارضة على حساب الحزب الحاكم، واقترابها من هزيمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في السباق الرئاسي، وربّما هزيمة حزب "العدالة والتنمية" في الانتخابات النيابية المقبلة.
تعتبر أنقرة أنّ الحوار مع النظام في هذا الملف قد يقطع الطريق أمّام المعارضة التركية المندفعة إلى الانفتاح بلا حدود مع نظام الأسد بحجة اللاجئين، وكان لا بدّ من إعطاء إشارات إيجابية إلى المواطنين الأتراك بأنّ هذا الملف غير مهمل من الرئاسة التركية، بخلاف ما تحاول المعارضة الإيحاء به.
وفي هذا الصدد ترى أنقرة أنّ خطوة النظام في إصدار "مراسيم عفو" هي خطوة دافعة نحو عودة اللاجئين، لكنّها غير كافية. وبرغم ذلك فإنها في المقابل ستظهر بعض المرونة في إيصال المساعدات إلى جميع المناطق السورية عبر معابرها الحدودية من دون انقطاع.
لكن يبدو أنّ نظام الأسد يفضل قذف هذا الملف إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية، خصوصاً أنّ الاجتماع الرباعي، إذا عُقد بداية شهر أيار (مايو) بحسب ترجيحات موسكو، سيسبق الانتخابات الرئاسية بنحو أسبوعين، وهي مهلة يستحيل من خلالها التقدم بملف اللاجئين، مع العلم أنّ نظام الأسد يراهن في ما يبدو، على تغيّر المشهد الداخلي التركي بشكل دراماتيكي، نتيجة "الرمادية" التي يتّسم بها مشهد الانتخابات الرئاسية المقبلة.