إسقاط النظام والتغيير السياسي

2024.06.04 | 05:44 دمشق

إسقاط النظام السوري
+A
حجم الخط
-A

بين محتوى ومضمون شعار إسقاط النظام وطريقة التغيير السياسي جدل متعدد المستويات، بدأ منذ 2011 ولم يتوقف لليوم، وكأن الموضوعين متعارضان كلياً! فمنذ أن توافدت موجات الشعوب المقهورة لعقودٍ في ساحات ومدن وعواصم الربيع العربي، في تونس والقاهرة، وطرابلس وصنعاء ودمشق، وصولاً إلى الجزائر وبغداد وبيروت، وشعار إسقاط النظام راية شعبية سياسية اجتماعية ونفسية عنوانها: الشعب يريد.

والإرادة فعل قوة وتحدٍ وفرض أكثر منه عملية مسار وإمكانيات ومعطيات، والشعب يريد تعني أنه ثمة مخاض ولادة يكتنفه الألم والأمل، والرعاية والعناية، وشقاء الحاضر وآفاق المستقبل.

وتبدو دلالاته الوجودية شعورية وعفوية تحررية تحتمل فرض القوة، وهي إصرار وثقة مهيمنة أكثر وضوحاً من دلالاته السياسية. فيما أن التغيير السياسي يحتكم للمعطيات والسياق، وتفعيل الإمكانيات وقوى الضغط لإحداثه قبولاً أو تفاوضاً، ولكنه أيضاً يتطلب الإرادة والإصرار لكن بشكل يختلف نوعياً عن إسقاط النظام. فأي مرحلة نعيش سورياً؟

إسقاط النظام

هو في المبدأ إخراج الطغمة الحاكمة من المشهد السياسي وإسقاط نفوذها وهيمنتها بالقوة. وهذه القوة سلمية كانت أو عسكرية تعني تحرير وإعتاق رقبة الشعب المقهور من نير عبودية السلطة الحاكمة، وما مارسته لعقودٍ منذ استولت على الحكم بما سمي "جمهوريات" الشرق بانقلابات عسكرية حكمت البلاد بالحديد والنار، وحولت شعوبها لرعايا ليس إلا.

وتجلت مفاعيل إسقاط النظام في مسار الربيع العربي بطرق سلمية أو عسكرية تباينت فيها الظروف حسب كل "جمهورية" عن الأخرى. فهي في تونس والقاهرة مختلفة عنها في صنعاء واليمن، وفي دمشق مختلفة عن كليهما. وبالعموم يمكن وضع جملة من المعايير أدت لسقوط أنظمة وأخرى لم تسقط حسب كل منها:

1- يسقط النظام سلمياً في حال:

- استقال رأس النظام من تلقاء نفسه بحكم الضغط الشعبي تظاهراً أو اعتصاماً.

- بقرار دستوري من مجلس الشعب.

- تولي قيادة الجيش ووزارة الدفاع مسؤولية إقالة الرئيس وتعيين بديل عنه لمرحلة انتقالية.

2- ويسقط عسكرياً في حال:

- نجحت الثورة العسكرية بإقالة الطغمة الحاكمة بالقوة العسكرية.

- حدوث انقلاب عسكري على منظومة الحكم.

- تدخل قوة خارجية عسكرية وتمكنها من الإطاحة بمنظومة الحكم.

بعيداً عن الخوض في التفاصيل، فقد نجحت عمليات اقتلاع النظم الحاكمة سلمياً في تونس والقاهرة، وعسكرياً في ليبيا واليمن 2013، في حين فشلت حتى اليوم في دمشق وبيروت وبغداد بأي من الطرق الممكنة أعلاه. وأيضاً في جميع الأحوال لم تستقر دول السقوط السلمي لكنها كانت أقل كلفة من مجريات الحدث اليمني أو الليبي العسكري، وجميعها لا تعادل الكلفة الباهظة التي عانت منها سوريا سلمياً وعسكرياً.

تحول مسار المسألة السياسية السورية لمسار مفرغ من محتواه الجوهري بدءاً من الـ 2019 مع اعتماد جير بيدرسون مفهوم المحادثات ذات الطابع التقني والمتعلقة باللجنة الدستورية وصياغة دستور جديد.

التغيير السياسي

عملية سياسية تتطلب جملة من الشروط الموضوعية تفرض على السلطة الحاكمة قبولها الانتقال السلمي للسلطة وإحداث التغيير السياسي فيها. وحيث أن الحديث لا علاقة له بالدول ذات البنى الديمقراطية التي تعمل على التداول السلمي للسلطة، بل عن سلطة لا تعترف بحق الشعوب وتحتكر الحكم لنفسها ومؤيديها وتعارض بشتى الطرق السياسية والأمنية والعسكرية إرادة شعوبها، يصبح التغيير السياسي جملة معقدة تتطلب شروطاً مختلفة.

والحالة السورية تعد أنموذجاً فريداً في ذلك، حيث كانت مؤشرات وعوامل نجاح الثورات سلمياً و/أو عسكرياً مُرجحة لغاية عام 2015، لحظة التدخل العسكري الروسي المباشر، لكن لم يحدث سقوط النظام.

ولم تنجح عمليات التغيير السياسي التي طالبت بها مبادرة الجامعة العربية وبيان جنيف1 عام 2012. وباتت المسألة السورية أكثر تعقيداً بعد عام 2018. حيث فشلت لقاءات جنيف الأممية الثمانية حتى 2017 والمبنية على أساس إحداث الانتقال السياسي التفاوضي بين السلطة والمعارضة بناء على قرار مجلس الأمن 2254. وتحول مسار المسألة السياسية السورية لمسار مفرغ من محتواه الجوهري بدءاً من 2019 مع اعتماد غير بيدرسون مفهوم المحادثات ذات الطابع التقني والمتعلقة باللجنة الدستورية وصياغة دستور جديد للبلاد، ونتيجتها لليوم صفر سياسي.

إذاً، هل نقف عند معادلة أن إسقاط النظام السوري بالمظاهرات السلمية أو بالعمل العسكري غير ممكنة؟ إذا لماذا تتظاهر السويداء سلمياً وهي تدخل المئة الثالثة اليومية في ذلك؟ وبالمقابل هل ما زال ممكناً التغيير السياسي وما هي مقوماته؟

التفاوض يشترط اكتمال حيثياته من حيث التماسك ووحدة الهدف وتفعيل نقاط القوة الذاتية مقابل البناء على نقاط ضعف الفريق الآخر، والاعتماد على تقاطع المصالح العربية والدولية بإنهاء تجارة المخدرات وتمدد الميليشيات الإيرانية وقوى التطرف.

التغيير السياسي الممكن هو إسقاط سياسي للنظام

تعقيدات المشهد السوري دولياً وإقليمياً تنعكس بمؤثرات عدة على طبيعة النظام الحاكم في دمشق، سواء بتحالفاته العضوية الإيرانية أو انضوائه واحتمائه بالقوة الروسية، مقابل هذا تخلخل توازناته بالمبادرة العربية ومطواعيته لإملاءات الدول الغربية. والقاعدة التي تقول أن التوازن بين حدين متباينين توازن قلق مفاجأته سريعة ومؤثرة عند تغير موازينه، فمهما حاول النظام التمسك بتوازنه بين حدود العملية السياسية والعسكرية الجارية في المنطقة، لا يمكنه تحقيق الاستقرار بمفرده في سوريا! وبالضرورة يمكنه أن ينصاع وبحكم نقاط قوة متعددة للتغيير السياسي، وأهمها:

1- استمرار التظاهر السلمي في مدينة كالسويداء تشير وبقوة لرفض شعبي واسع لاستمرار حكم النظام السوري، فالسويداء اليوم قادرة على الجهر برفضها وتعبر عن غالبية الشعب السوري فيه.

2- لم تزل القرارات الدولية خاصة 2254، التي ضمنتها الجامعة العربية في بيان قمتها الأخير في المنامة بديلاً عن مبادرتها العام الفائت خطوة مقابل خطوة، تعني بوضوح عدم الاعتراف بشرعية حكم النظام المفردة، وعدم قدرته على تأمين شروط الاستقرار والسلام وتهيئة البيئة الآمنة لعودة المهجرين والنازحين.

3- تغيير المعادلات الإقليمية والدولية ومحاولات كف يد الوجود الإيراني من المنطقة تدريجياً، بالتقسيط. وعلى ما يبدو أنه مدعوم باتفاق مصالح روسي أميركي غير معلن.

لكن ما ينقص معادلة التغيير السياسي السوري هو الطرف الآخر. الطرف المفاوض على الانتقال والتغيير السياسي. فالنظام المستمر بتقديم التنازلات المتتالية أمام الشروط أعلاه يتطلب من القوى المحلية السورية بمعارضتها الرسمية متمثلة بهيئة التفاوض السورية، والقوى المحلية شرقي الفرات، والقوى الوطنية غير المنضوية في إحداهما، تمكين وجودها السياسي الوطني محمولة على أساسي قوتي التظاهر السلمي ضد سلطة النظام وقوى الأمر الواقع المصنفة إرهابية، وشرعية القرارات الدولية والدور العربي فيها والتي تفضي للانتقال السياسي.

والتفاوض يشترط اكتمال حيثياته من حيث التماسك ووحدة الهدف وتفعيل نقاط القوة الذاتية مقابل البناء على نقاط ضعف الفريق الآخر، والاعتماد على تقاطع المصالح العربية والدولية بإنهاء تجارة المخدرات وتمدد الميليشيات الإيرانية وقوى التطرف. وهذه تستلزم أدوات عمل سياسية لا يمكن أن تحملها جهة وحيدة بذاتها كمظاهرات السويداء السلمية، أو هيئة التفاوض بمفردها، أو بقية فرقاء المعارضة السورية المشتتة، أو القوى الوطنية السورية من رجال أعمال ومجتمع مدني، بقدر امتلاكها مجتمعة الإرادة الجمعية على التنازل للبعض طوعاً وبإرادة حرة في تيار وطني واحد قادر وفعال وذي جدارة واستحقاق، ويمتلك كامل مقومات التفاوض وتحقيق الانتقال السياسي والدخول في مرحلة انتقالية وتحمل مسؤولية الاستقرار والأمان للسوريين ودول الجوار والعمق العربي، وبالضرورة إنهاء حكم الطغمة الحاكمة وسقوطها سياسياً بقوة الإرادة الجمعية السورية، فهل نمتلك زمام المبادرة وننهي جدل إسقاط النظام أو التغيير السياسي باتجاه تغيير الأدوات وتكامل الإرادات؟