كثر الحديث مؤخراً، بعد القمة التي جمعت بين الرئيسين الروسي والتركي في سوتشي نهاية الشهر الماضي، عن اقتراب معركة واسعة يُحضر لها نظام الأسد وحلفاؤه بدعم روسي لحسم مصير محافظة إدلب. وترافق ذلك مع عودة التصعيد بغارات للطيران الروسي، بعد توقف لخمسة أيام، وقصف قوات النظام بالمدفعية والصواريخ مناطق في ريف إدلب. مع توارد أنباء عن وصول تعزيزات لقوات النظام إلى المحاور الشرقية لمدينة إدلب.
الجديد في الأمر ليس التصعيد بحد ذاته، إنما ربطه بنتائج قمة بوتين وأردوغان في سوتشي، فالتصعيد مستمر منذ عدة أشهر وكذلك الحشود، علماً بأن المباحثات في القمة اقتصرت على الرئيسين، وسط تكتم رأى فيه محللون دليلاً على حساسيتها.
الحديث عن معركة شاملة للسيطرة على إدلب يَفترِض أن روسيا قد حسمت أمرها، بما في ذلك حساب التكلفة التي ستدفعها جراء ذلك في علاقاتها مع تركيا،
وربما بُنيت بعض التحليلات على عدم إجراء بوتين وأردوغان مؤتمراً صحفياً مشتركاً، رغم وصف أردوغان للقمة بأنها كانت مثمرة، وإعلانه أنه حدَّد مع بوتين "خريطة طريق سيعتمد عليها وزراء دفاع وخارجية البلدين"، حسب ما نقله التلفزيون الرسمي التركي. وفي المقابل أكد الكرملين في بيان صدر عنه بعد انتهاء القمة أن "بوتين وأردوغان اتفقا على الالتزام بكافة الاتفاقيات المبرمة حول محافظة إدلب السورية". لكن تشديد بيان الكرملين على ما سماه "ضرورة طرد المجموعات الإرهابية التي لا تزال موجودة في إدلب"، فُسر من قبل بعض المحللين كإشارة على احتمال تحرك عسكري.
بالاستناد إلى تجارب السنوات الماضية، لا يمكن استبعاد ارتفاع حدة التصعيد، أو وقوع معارك ذات طابع تكتيكي، غير أن الحديث عن معركة شاملة للسيطرة على إدلب يَفترِض أن روسيا قد حسمت أمرها، بما في ذلك حساب التكلفة التي ستدفعها جراء ذلك في علاقاتها مع تركيا، بالإضافة إلى ردّ فعل دول الاتحاد الأوروبي التي ستكون في مواجهة موجات لجوء كبيرة، فعدد سكان محافظة إدلب أكثر من 4 ملايين نسمة، نصفهم مهجرون من محافظات أخرى، فراراً من مجازر النظام وحلفائه والقصف الروسي، أو بعمليات تهجير قسري. ناهيك عن أن روسيا ستتحمل، بشكل أو بآخر، مسؤولية سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين إذا ما حاولت قوات النظام والميليشيات الإيرانية المتحالفة معها اقتحام إدلب، فهذا غير ممكن إلا بضوء أخضر وإسناد روسي.
قراءة مغايرة، للتحليلات التي تحذر من معركة في إدلب، يقدِّمها محللون عسكريون وسياسيون روس، ترجح بقاء الوضع القائم في محافظة إدلب على ما هو عليه، وحسب مقالة نشرها ستانيسلاف إيفانوف، في "كوريير" للصناعات العسكرية الروسية، "تمكن أردوغان هذه المرَّة أيضا من إقناع بوتين بأن تصعيد الصراع المسلح في إدلب وما حولها لا يلبي مصالح روسيا". وحسب مصادر مقربة من الخارجية الروسية، تدرك دوائر صنع القرار في موسكو أنه حتى لو انسحبت القوات التركية والأميركية من سوريا فليس مضموناً أن يتمكن النظام من بسط سيطرته، ولن يكون هناك حل إلا بتسوية سياسية شاملة على أساس قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254.
كما أن أي هجوم واسع على إدلب سيقوض "مسار أستانا"، الذي لطالما اعتبرته روسيا إنجازاً مهماً لدبلوماسيتها، كبديل لـ"مسار جنيف" تحت مظلة الأمم المتحدة، وإن كانت موسكو تقدم مسارها كرافد ومكمل لجهود المنظمة الدولية.
ومن شأن هذا أيضاً أن يدفع أنقرة للتقارب مع واشنطن والسعي لجسر هوة الخلافات معها، في حين تراهن موسكو على توظيف تلك الخلافات لاستمالة أنقرة إلى جانبها في العديد من الملفات تتعدى الملف السوري. منها على سبيل المثال لا الحصر النفوذ التركي في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، وخاصة النزاع بين أذربيجان وأرمينيا، والملف الليبي، والبحر الأسود، ومنطقة البلقان والأزمة الأوكرانية. ولفت رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاعية والمدير العلمي لنادي فالداي، فيودور لوكيانوف، إلى أن "حدة خطاب البيت الأبيض تجاه تركيا خفت بشكل ملحوظ مؤخراً". وأضاف: "ويلمّح الزعيم التركي أردوغان بوضوح إلى أنه، من ناحية، مستقل ويفعل ما يراه ضروريا، لكنه في الوقت نفسه يرى أن من الضروري الحفاظ على علاقات التحالف مع الولايات المتحدة وتقويتها".
ومن الواضح أن الدور التركي في الملف السوري، بصرف النظر عن الخلافات في الرؤى والأهداف بين موسكو وأنقرة، مهم وضروري لروسيا لكونه يوازن الدور الإيراني، الذي لا يقل إشكالية عن الدور التركي من وجهة النظر موسكو، التي تخوض حرباً مستترة مع طهران حول النفوذ والمنافع في سوريا، والإمساك بناصية نظام الأسد. ووفقاً لمحللين سياسيين روس، في أي تسوية شاملة للملف السوري ستكون إيران هي العقبة الكبرى، لأنها تعتبر سوريا الركيزة الأساسية لمشروعها المسمى بـ(الهلال الشيعي).
العلاقة التجارية الثنائية، ساهمت في الحدّ من الاندفاع التركي نحو مواجهة التدخل العسكري الروسي في سوريا، لكن المعادلة قد تتغير عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي التركي
وعلى ضوء التوترات بين روسيا وحلف شمال الأطلسي "الناتو"، بقيادة الولايات المتحدة، من مصلحة روسيا الحفاظ على علاقات دافئة في تركيا، حيث تقدِّم الدبلوماسية الروسية العلاقات مع أنقرة كنموذج ناجح يمكن البناء عليه في علاقات روسيا ودول الناتو، انطلاقاً من أن تركيا إحدى الدول المهمة في الحلف.
أخيراً وليس آخراً؛ فإن العلاقات الاقتصادية بين روسيا وتركيا، والتعاون في مجال الطاقة ومنها الكهروذرية، ونقل الغاز ليست أقل أهمية من العلاقات السياسية، وتعد ضمانة لكلا الطرفين، ما يملي على موسكو أن تأخذها بعين الاعتبار في حساباتها لكلفة أي معركة شاملة في إدلب، من المرجح أن تؤدي إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين الجيش التركي وجيش نظام الأسد، ولن تستطيع روسيا التنصل من مسؤولياتها إزاء نشوبها، فالكل يدرك أن نظام الأسد لن يقدم على هذه الخطوة دون غطاء سياسي ودعم وإسناد عسكري روسي مباشر. وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من التحليلات الروسية أكدت، خلال السنوات الأخيرة، أن الروابط الاقتصادية، والعلاقة التجارية الثنائية، ساهمت في الحدّ من الاندفاع التركي نحو مواجهة التدخل العسكري الروسي في سوريا، لكن المعادلة قد تتغير عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي التركي، خاصة أن تركيا هي الطرف الأكثر قدرة على إغراق روسيا في مستنقع أفغاني جديد إن أرادت ذلك، نظرا لأنها تمتلك أكثر من 900 كيلومتر من الحدود مع سوريا بعضها قريب جدا من قاعدة حميميم، وتستطيع تزويد الجيش الوطني والفصائل القريبة منها بأسلحة تصعب مهمة الروس والنظام.
يستنتج مما سبق أن إدلب بمثابة خيط رفيع تسير عليه العلاقات بين موسكو وأنقرة، والسير عليه بتوازن يقتضي احترام كل طرف لمصالح الطرف الآخر وعدم استفزازه بدرجة كبيرة. ولا شك في أن أي معركة شاملة في إدلب ستكون امتحاناً قاسياً للعلاقات الروسية التركية، ستمتد آثارها لفترة طويلة، وتتعدى الملف السوري.
والأقرب إلى منطق الأمور تقديم تنازلات تكتيكية متبادلة لخفض التصعيد، وبالعودة إلى بيان الخارجية الروسية حول الزيارة الأخيرة لأردوغان، يكفي موسكو استعداد تركيا لاتخاذ خطوات عملية لـ "طرد المجموعات الإرهابية التي لا تزال موجودة في إدلب"، والجملة الأخيرة بين معترضتين وردت حرفياً في البيان الروسي. وبالطبع الخطوات التركية لن تكون مجانية، والثمن في سوريا موجود في شمال شرقها، وفحواه مراعاة مصالح تركيا الأمنية وعدم تجاوزها باتفاقات ثنائية بين روسيا والولايات المتحدة في حال قررت الأخيرة الانسحاب من شمال شرقي سوريا.