في خطوة هامة على درب تحقيق العدالة وحماية حقوق الإنسان، وضمن إجراءات فرض تطبيق اتفاقية مناهضة التعذيب، أصدرت محكمة العدل الدولية في لاهاي قرارها في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023 بشأن الدعوى المشتركة التي قدمتها كل من كندا وهولندا ضد النظام السوري، والتي تضمنت طلب تحديد التدابير المؤقتة بشأن فرض تطبيق اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية، أو اللاإنسانية، أو المهينة، وذلك بناءً على أدلة تُبرهِن على عدم التزام النظام السوري باتفاقية منع التعذيب التي كان قد صدّق عليها عام 2004. لم يلتزم النظام بتطبيق الإجراءات التي فرضتها المحكمة وما زال التعذيب مستمراً بحسب عدة تقارير حقوقية موثقة.
متى ولماذا صدّق النظام على الاتفاقية؟
صادق النظام السوري على اتفاقية مناهضة التعذيب في 19-08-2004، ذلك التصديق لم يكن بدافع أو نية إنهاء التعذيب بالفعل في السجون السورية، والذي تجاوز عمره الخمسين عاماً، وليس من أجل تبني إصلاحات حقيقية في المنظومة الأمنية والتي كانت من وعود بشار الأسد حين تسلم السلطة في حزيران للعام 2000، بل كانت استجابةً لأحد شروط المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، والتي يفرضها على الدول "خارج منظومة الاتحاد الأوروبي" التي ترغب في عقد اتفاقية تعاون السوق الأوروبي المشتركة.
بعد تصديق النظام السوري على الاتفاقية، طلب الاتحاد الأوروبي تبييض السجون من السياسيين وناشطي حقوق الإنسان وإطلاق سراح المعتقلين على خلفية حرية الرأي والتعبير، وهنا فضّل النظام السوري خسارة تنمية اقتصادية كبيرة، قد تحقق انتعاشاً مالياً كبيراً في سوريا، على خسارة القبضة الأمنية التي تجعله يستمر في حكمه، وماطل في عملية الإفراج وتنفيذ الشروط إلى أن انتهت تلك المفاوضات بشكل تدريجي، وخاصةً بعد عملية اغتيال رفيق الحريري. ومنذ ذلك التصديق إلى يومنا هذا، ما زال النظام السوري مستمراً بعمليات التعذيب رغم الاتفاقية التي تلزم النظام باحترام وتطبيق وتنفيذ بنودها وعدم خرقها، وبالتالي وضع النظام السوري أمام مسؤوليات والتزامات لتنفيذ الاتفاقية وعدم خرق أي بند من بنودها باستثناء تحفُّظه على المادة (20) في أثناء التصديق، والتي لا تؤثر بشكل كبير على إجبارها على وقف التعذيب. أيضاً يضعها هذا التصديق أمام مساءلة أمام محكمة العدل الدولية "الهيئة القضائية الرئيسية في الأمم المتحدة" في حال لم تلتزم بما صدقت عليه.
النظام السوري لم يلتزم.. ماذا يمكن للمحكمة أن تفعل؟
أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان تقريراً بتاريخ 23 أيار (مايو) 2024 حول استمرار التعذيب في سوريا، حيث أشارت إلى أنه بعد مرور ستة أشهر على قرار محكمة العدل الدولية، قام النظام السوري بقتل ما لا يقل عن 29 شخصاً بسبب التعذيب، واعتقل ما لا يقل عن 534 مدنياً، بينهم 8 أطفال و21 سيدة. هذا التقرير يعكس واقعاً مؤلماً ويبرز الحاجة الملحة لتنفيذ قرارات المحكمة بجدية أكبر.
رغم أن محكمة العدل الدولية لا تمتلك الأدوات الإلزامية لتنفيذ قراراتها إلا من خلال الطرق التقليدية الأممية، كالجمعية العمومية التي تحول الملف إلى مجلس الأمن للتصويت على الإلزام باستخدام أو عدم استخدام البنود الأساسية التي تضغط على الدول، مثل "البند السادس من نظام الأمم المتحدة الذي يعني استخدام الضغط الاقتصادي والعزلة السياسية للتنفيذ، أو البند السابع من نظام الأمم المتحدة التأسيسي والذي يعني استخدام القوة العسكرية لتطبيق قرارات مجلس الأمن"، تملك تلك القرارات في الوقت ذاته الإلزامية الأخلاقية، ولا يمكن للدول رفض تلك القرارات أو التوصيات، لكن عملية التنفيذ تعتمد بشكل كبير على تعاون الدول المعنية.
في حالة سوريا، التي لم يظهر النظام فيها التزاماً بتنفيذ قرار المحكمة، يمكن اتخاذ عدة خطوات لتشجيع الامتثال من خلال التعاون مع الأمم المتحدة، حيث يمكن للمحكمة العمل مع مجلس الأمن الدولي لاتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد النظام السوري، بما في ذلك فرض عقوبات دولية وإجراءات قانونية إضافية، كما دعم وإجراء تحقيقات دولية مستقلة حول ممارسات التعذيب في سوريا، ما يساهم في جمع أدلة قوية تُستخدم في المحاكم الدولية وتزيد من الضغط القانوني على النظام السوري، ودعم منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية والتعاون معها لتوفير معلومات وشهادات إضافية تعزز من موقف المحكمة وتزيد من الضغط على النظام السوري.
وأخيراً يمكن دعم آليات الرصد والتقييم لمراقبة مدى التزام النظام السوري بقرار المحكمة، وتقييم فعالية الإجراءات المتخذة لضمان الامتثال، والطلب من لجنة تقصي الحقائق في سوريا التحقيق في الداخل السوري في عدم امتثال النظام السوري للإجراءات المؤقتة المفروضة والمُلزمة لحكومته، وهنا يمكن للأمم المتحدة الالتفاف حول عدم تصديق النظام على المادة (20) من الاتفاقية، والتي تتعلق بحق اللجنة الدولية لمناهضة التعذيب في دعوة الدول الأطراف في الاتفاقية لدراسة ما يصل إليها من معلومات وتقديم ملاحظات بشأنها، وإجراء تحقيق سري، وطلب زيارة الدولة في حالة إجراء التحقيق، حيث لم تعترف باختصاص اللجنة الواردة في هذه المادة.
وبالتالي كون لجنة التحقيق الخاصة بالاتفاقية لا يمكنها إجراء التحقيق في سوريا، يتم تكليف لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية والمشكلة سابقاً من قبل مجلس حقوق الإنسان بتاريخ في 22 آب /أغسطس 2011 بموجب القرار S-17/1. بإجراء تلك التحقيقات، وتزويد الجمعية العمومية ومجلس الأمن بتقريرها والذي بدوره يعود به لمحكمة العدل الدولية ولجنة تقصي الحقائق في الاتفاقية.
أما على الصعيد الدبلوماسي والمدني:
فيمكن للدول التي قدمت الشكوى (المملكة الهولندية – دولة كندا)، إلى جانب المجتمع الدولي، استخدام القنوات الدبلوماسية للضغط على النظام السوري لتنفيذ القرار. هذا يشمل فرض عقوبات دبلوماسية والحد من العلاقات السياسية مع النظام السوري، وبالتالي الوقوف في وجه التطبيع الحالي معه. كما يمكن فرض العقوبات الاقتصادية التي تستهدف الأفراد والمؤسسات المرتبطة بالانتهاكات يمكن أن يزيد من الضغط على النظام السوري للامتثال للقرار. ويشكل الإعلام دوراً هاماً في نشر المعلومات حول قرار المحكمة والانتهاكات المستمرة، واستعراض المواقف الدولية بخاصة الدول الكبرى والمنظمات الدولية من قرار المحكمة، وكيف يمكن لهذه المواقف أن تدعم أو تعرقل تنفيذ القرار.
ماذا بعد استصدار المحكمة للإجراءات المؤقتة من قبل محكمة العدل الدولية؟
بعد استصدار محكمة العدل الدولية لإجراءات مؤقتة ملزمة على النظام السوري، هناك عدة خطوات وإجراءات تالية يمكن أن تحدث لضمان تنفيذ هذه الإجراءات وتحقيق الأهداف المرجوة منها:
متابعة التنفيذ وتقديم التقارير
وتتضمن متابعة الالتزام بخاصة من قبل الدول التي قدمت الشكوى، أي دولة كندا والمملكة الهولندية، بحيث يمكن أن يتم ذلك عبر تقارير دورية إلى محكمة العدل الدولية. كما يمكن للمحكمة أن تطلب من النظام السوري تقديم تقارير دورية حول الإجراءات التي اتخذتها لتنفيذ القرار. كما يمكن لمنظمات حقوق الإنسان تقديم تقارير مستقلة لتقييم مدى التزام النظام السوري.
الضغط الدبلوماسي والدولي المستمر
على النظام السوري من قبل الدول والمنظمات الدولية عبر القنوات الدبلوماسية، وحثها على الالتزام بقرارات محكمة العدل الدولية، كما يمكن تكوين تحالفات دولية لدعم قرار المحكمة، مثل تحالفات منظمات حقوق الإنسان والدول المهتمة بالقضية، لتعزيز الضغط على النظام السوري.
فرض عقوبات
عقوبات اقتصادية إضافية من قبل الدول الداعمة للقرار، تستهدف الأفراد والمؤسسات المرتبطة بممارسات التعذيب. وعقوبات سياسية عبر تقليل العلاقات الدبلوماسية مع النظام السوري وفرض قيود على السفر للمسؤولين المتورطين في الانتهاكات.
تحقيقات دولية ومحاكمات
عبر دعم إجراء تحقيقات مستقلة لجمع الأدلة حول ممارسات التعذيب والانتهاكات، والتي يمكن استخدامها في المحاكم الدولية، ثم استخدام الأدلة التي تم جمعها لتقديم المسؤولين عن التعذيب إلى المحاكم الدولية، مثل محكمة العدل الدولية في هذه الدعوى أو المحكمة الجنائية الدولية في حال يوماً من الأيام فتح الباب لتكون الأراضي السورية من ضمن صلاحياتها.
التعاون مع المنظمات غير الحكومية
لرصد وتوثيق الانتهاكات بشكل مستمر، وتقديم تقارير دورية للمجتمع الدولي. ودعم المبادرات المحلية التي تعمل على مناهضة التعذيب وتعزيز حقوق الإنسان في سوريا.
دور الأمم المتحدة
يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يتخذ خطوات أكثر صرامة بناءً على تقارير محكمة العدل الدولية، مثل فرض عقوبات دولية أو اتخاذ إجراءات لحماية المدنيين. ويمكن تكليف المبعوث الخاص للأمم المتحدة لمتابعة الوضع في سوريا والضغط على الحكومة لتنفيذ قرارات المحكمة.
وكانت المحكمة قد حددت 3 شباط (فبراير) 2025 موعد جلسة تقديم مملكة هولندا ودولة كندا للمذكرة وللدفوع كاملة، والتي تحوي الأدلة الدامغة في شكواهم ضد النظام السوري في اختراقها وعدم احترامها والتزامها في تطبيق الاتفاقية، وارتكابها الفعل بشكل مباشر. كما حددت 3 شباط (فبراير) 2026 كمهلة زمنية لتقديم المذكرة المضادة للمدعى عليه، للنظر في الشكوى التي تقدمت بها كندا وهولندا ضد النظام.
يمثل إصدار محكمة العدل الدولية لإجراءات مؤقتة ملزمة على النظام السوري خطوة مهمة نحو تحقيق العدالة ومنع التعذيب. ومع ذلك، فإن فعالية هذه الإجراءات تعتمد على التعاون الدولي والضغط المستمر لضمان تنفيذ القرار. يجب على المجتمع الدولي أن يواصل دعمه لحقوق الإنسان واتخاذ كافة الإجراءات الممكنة لضمان توقف ممارسات التعذيب في سوريا وضمان محاسبة المسؤولين عنها.