زار أحد تُجّار اليمنِ مكّةَ المكرّمة، وباع تجارته للعاص بن وائل من أشراف قريش. استغل العاص بن وائل مكانته وشوكته بين أهله، فلم يُعطِ التاجرَ الغريبَ حقَّه. نادى الغريبُ اليمني على أهل مكّة ليردّوا عليه مظلمَته، فاستجاب له أشرافُ قريش، حيث اجتمعوا وعقدوا بينهم حلفاً، خلاصته أن ينصروا المظلومَ على الظالم أيّاً كان، وألا يُظلم أحد في مكّة إلا ردّوا ظلامته، وسُمّي: حلف الفضول.
ليس غريباً أن يتصرّف العرب هكذا في الجاهلية، فقد أُثر عنهم الكثيرُ من المرويات في نصرة المظلوم وإكرام الضيف وحماية المستجير، ولربما مرّ الحدث مرور الكرام، لولا أنّ حلفَ الفضول جاء بُعيد حرب الفجار. حيث سال دم كثير، ودمّر الثأر علاقات القبائل العربية، ولمّا يبرد الدم بعد. ومع ذلك لم تأخذ عقلاءُ قريشَ الحميّةَ بقتل ما تبقّى من مروءة الإنسان، بل كانت قيمة العدل ما تزال لها أثرها بين القبائل الجاهلية، حتّى إن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي حضر الحلف وكان عمره عشرين عاماً، ذكره بعد بعثته بخير، فقال: «ولو دُعيت به في الإسلام لأجبت».
قبول الرسول الكريم للحلف جاء غيرَ مشروطٍ، على خلاف محاولات الفصائل الإسلامية وفصائل الجيش الحر ومكونات المعارضة والناشطين على اختلاف مذاهبهم في سوريا المنكوبة. في مقارنة محزنة بين تصرّف يوصف "انتقاصاً" بأنه «قبليّ» حدث في عمق الصحراء منذ ألف وخمسمئة عام وما يحدث الآن بين المكونات السورية التي عجزت عن الحدّ الأدنى من الاتفاق لوقف سيل الدم السوري وحمايته وإطعام الجائع وإيواء المشرّد. في جردة سريعة لحسابات العام المنصرم نجد أن القاسم المشترك للسوريين هو الخصومات وغصب الحقوق ورخص الدم السوري. ولا أقصد هنا رخص الدم السوري على الأسد ومن لفّ لفّه من روسيا وإيران، فهم يروننا أعداءهم، ومَن ظلمَنا أربعين عاماً متتالية لا نتوقع منه العدل ولا نرجو منه الحماية. ولكن المقصود المكونات السورية التي فجّرت الثورة وصرخت بوحدة الشعب السوري.
كان شعار: واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد إيذاناً ببدء مرحلة جديدة قوامها العدل، أي بالعبارة الحقوقية المعاصرة حقوق المواطنين المتساوية أمام القانون. الجميع سواسية، ولا يُظلم أحد على أرض سوريا مهما كان دينه أو عرقه أو اتجاهه. ويا للمفارقة أن مَن طالب بها هم جيل الشباب، جيل الأسد الذي تربّى على عينه في طلائع البعث وشبيبة الثورة، وهو نفس الشباب الذي حرص الأسد على تغييبه بالاعتقال والقتل والتهجير فيما بعد.
يتندّر السوريون بمرارة أن عدد من سقط في الاقتتال بين الفصائل يفوق ما سقط أمام نظام الأسد، وكأن العداء بينهم فاق عداءهم للنظام
ما أعطى الثورة قوتها ومشروعيتها في البداية هو تقديم مفهوم العدل والمساواة في نهضة سوريا الجديدة، وتجاوز الخلافات الإيديولوجية وأهمية الاحتفاظ بتلك الخلافات في المستوى الثقافي، وعدم نقلها إلى المستوى السياسي. ولكن إصرار العاملين في حقل السياسة على الخلط بينهما أدى إلى الخلاف بين التيارات والاصطدام بينها، ثم تقوقع كل جماعة على نفسها وخوفها من الآخرين. ثم بدأت لغة الاتهامات والتخوين تطغى على الانفتاح والتشارك ومحاولة إيجاد مساحات العمل المشتركة، ما أدّى إلى القطيعة التي نراها اليوم. في الحقيقة لم أجد فرقاً على سبيل المثال بين الإسلاميين واليساريين في تعصّبهم لجماعتهم، وإصرارهم على جرّ الطرف الآخر إلى مساره وإجباره عليه، بدل التشارك وتقديم التنازلات المشتركة، وهذه سمة العمل السياسي. مثل تلك الطروحات والتحرشات التي كنا نسمعها من اليساريين تماماً مثلنا عانينا منها مع الإسلاميين في أثناء تنظيم المظاهرات أو مناقشة شكل الدولة أو تسيير أمور المنظمات المدنية والطبية و غيرها.
أواخر عام 2015 كنا في اجتماع في الغوطة الشرقية لبحث سبل توافق الفصائل ومواجهة الخطر القادم المتمثل في التدخل الروسي الرسمي والعنيف آنذاك. فعلّق أحدهم أنّنا عجزنا عن توحيد الجهود الطبية والإعلامية والإغاثية.. إلخ فلماذا نلوم الفصائل وحدها؟!
يتندّر السوريون بمرارة أن عدد من سقط في الاقتتال بين الفصائل يفوق ما سقط أمام نظام الأسد، وكأن العداء بينهم فاق عداءهم للنظام. لكنها ليست ميزة خاصة بالفصائل، فلقد تمادت مؤسسات المعارضة في خلافاتها وخصوماتها حتى فاقت خصومة الأسد نفسه، وقد فقدت كل مصداقية أمام السوريين وفي طريقها نحو الاضمحلال أمام التقدم الذي يحرزه النظام في المحافل الدولية وإن كان بطيئاً، وآخرها اعتماد مؤسسة أسماء الأسد أمام الأمم المتحدة، وتجهيز خط الغاز في انتظار الضوء الأخضر الأميركي والتحرك في أول فرصة مواتية. إلحاحنا في مطالبة مؤسسات المعارضة تحمّل مسؤولياتها يضمر اعترافاً ضمنياً بعدم مساواتها مع النظام من حيث الإجرام والنيّة المسبقة في تجويع الشعب، ولكن ما العمل إذا اختلفت النيات وكانت النتيجة واحدة؟! حيث الضعيف هو من يدفع الثمن، وآخر مَن ننصره!
في تقديمنا لحلف الفضول لجوء إلى الماضي، وهو غير غريب عنا. فقد طالبنا سابقاً بالرجوع إلى دستور 1955، كما اعتمدنا علم الاستقلال الأخضر، والآن نستلهم الماضي في إعلاء القيم الأخلاقية الكبرى وتقديم الإنسان على الخلافات والخصومات السياسية والإيديولوجية، وبناء مؤسسات على أساس العدل والمواساة ونصرة المظلوم. ببساطة نطالب بحلف فضول سوري. هذه أمنياتنا في العام الجديد، فهل نراه في مؤسسات المعارضة قريباً؟