يعيش اللاجئ في أوروبا (تجربة هولندا خاصة) بين ثقافتيْن للاحتجاج هما: ثقافة الوطن الأم، حيث الاحتجاج غير منظم، وممنوع ومخفي وله نتائج سلبية طويلة الأمد على المحتج وعائلته وشبكاته الاجتماعية.
وثقافة حياة اللجوء حيث أمامه كل المجالات ليكون احتجاجه منظماً ومحققاً لأهدافه، ويمكن تكليف مسؤول عن كل حالة احتجاج جماعية، لا تشويه للاحتجاجات أو حرْف لمسارها، أو اتهامها بالعمالة، لا خوف في بلد اللجوء، إلا ذلك الخوف القادم من وطنه الأم، إذ قد يخاف ممن يصوّره، أو يكتب عنه لتلك السلطة التي تنتظره على حدود الوطن الأم، حين يعود ذات يوم، ولو من باب الزيارة، لتنتقم من احتجاجاته عليها في بلد اللجوء.
يشجِّع جو الديمقراطية وفسحة الحرية المقوننة واحترام حقوق الإنسان في بلدان اللجوء على ممارسة الاحتجاج، دون انتظار المخاوف التي كان يتعرض لها المحتجون في بلدانهم الأم. ومما يساعد على استمرار الاحتجاجات في هولندا عوامل أخرى من مثل وجود كتلة بشرية كبيرة، إذ تشير الإحصاءات إلى أنها وصلت إلى نحو 150 ألف مواطن سوري وجدوا أنفسهم لاجئين في هولندا منذ اندلاع الاحتجاجات في سوريا، بعيداً عن وطنهم الأم، الذي شارك كثير منهم في احتجاجاته يوم كان الحلم ممكناً، غير أنهم باتوا اليوم في بلد آخر، وضمن معطيات جديدة ومختلفة كلياً عما عاشوه أو ألفوه أو شاركوا به.
المشكلة الرئيسية للاحتجاج في أوروبا من قبل القادمين من سوريا أنه فقد لحظته التاريخية، لحظة التغيير المنتظرة، والمنعطف الذي حلمت به أشكال الاحتجاجات الناجمة عن الربيع العربي بموجتيْها الأولى والثانية
والاحتجاج في بلدان اللجوء يختلف في الأهداف والطرائق والأسباب والوجوه عما ألفه، أما السماح به فليس لأنه موجه إلى سلطة أخرى خارج البلدان، بل لأن حرية الاحتجاج كجزء من حرية التعبير مصانة دستوراً وقانوناً.
المشكلة الرئيسية للاحتجاج في أوروبا من قبل القادمين من سوريا أنه فقد لحظته التاريخية، لحظة التغيير المنتظرة، والمنعطف الذي حلمت به أشكال الاحتجاجات الناجمة عن الربيع العربي بموجتيْها الأولى والثانية. لذلك يثير أسئلة عن الجدوى من قبل شريحة من اللاجئين أنفسهم، إذ ها هنا لا تمثيل لحكومة البلد الذي تحتج ضده، فلمن توجِّه احتجاجك وما الهدف منه؟ وهل هو مناصرة للمحتجين في الداخل، أم تذكير بالمطالب؟ وبأيّة لغة وطريقة ستحتج وتصرخ؟
المطالب التي خرج من أجلها المحتجون في بلدانهم الأم لم تتحقّق بل كان نصيبهم التشرد واللجوء مما يبقي جذوة الاحتجاج مفتوحة، ولئن كانت ظروف اللاجئين قد باتت مستقرة اقتصادياً، وقانونياً، وفرص عمل، ودراسة؛ في ضوء مقارنتهم مع ظروف شبكاتهم الاجتماعية في وطنهم الأم إلا أن تلك الشبكات العائلية والصداقاتية والإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي في وطنهم الأم لا تزال تنقل لهم يومياً ما يحدث هناك من إذلال وتضييق ما يجعل احتجاجاتهم متقدة، إضافة إلى أرواح الضحايا ممن يعرفونهم أو يتقاطعون معهم.
يعيش اللاجئون بذاكرات طازجة وجروح مفتوحة، وليس من الأخلاق (وفقاً للمفاهيم الإنسانية المستقرة) أنهم حين وصلوا إلى بلد آمن أن يتخلَّوا عما احتجوا عليه في بلدهم الأم، بل إن البعض يرى أن في ذلك خيانة، لأنه لولا دماء الضحايا لما حصل أولئك اللاجئون على هذا اللجوء السهل قانوناً، بينما رأى آخرون أن اللجوء فرصة للابتعاد عما عانوا منه، خاصة أنهم لم يعودوا يستطيعون فعل أي شيء فيه وقد أعيا ملفهم المعقد والمتداخل دولاً وحكومات.
تفاجأ كثير من اللاجئين بطرائق الاحتجاج في المجتمعات الجديدة، التي طوَّرت أساليب مختلفة في الاحتجاج تتلاءم مع تاريخها السياسي والاجتماعي والديمقراطي والقوانين السائدة، ووجدوا أن الاحتجاج ها هنا لا ينتظر منه التغيير السريع والكبير كما في بلدانهم، فالمحتج غالباً في البلد الجديد ليس لديه تراكم طويل من المظلوميات والمظالم والانتهاكات أو فقدان الحقوق، لذلك من الطبيعي أن تتناسب طريقة الاحتجاج مع حاجات البشر ومطالبها، وبالتالي فإن السلطة في قراءتها للاحتجاج ستكون كذلك مختلفة، إنه نوع من المأسَسة للاحتجاجات، لكن ليست المأسسة المجهضة له بل المحدّدة والمنظِّمة. ولعل تجربة ميدان التحرير في مصر وموقف السلطة آنئذ تعد من النماذج الإيجابية العربية في المجال الاحتجاجي في الفضاء العام، حيث وضع السلطة في موقف حرج نتيجة كونه جزءاً من الزحف الهادئ أو "اللاحركات الاجتماعية" بلغة المفكر آصف بيات.
هناك مهمة ثقافية إضافية أمام المحتجين في أوروبا على أوضاع في بلدهم الأم، وهي شرح مشكلتهم وأسباب احتجاجهم والدخول في نقاشات وحوارات مع المجتمع الجديد لإقناعه والوصول إلى تعاطفه مع قضيتهم، والتعلم من تجربته وكيفية الوصول إلى دولة الرعاية الاجتماعية التي وصل إليها، وهل تلك الاحتجاجات هي الطريق الأمثل. خاصة أن معظم الاحتجاجات العربية ذات طابع سياسي اجتماعي أو منطلق سياسي اجتماعي مطلبي أو حقوقي أو حزبي. إذ لا بد لاحتجاجاتهم أن تأخذ بعين النظر ثقافة المجتمع الجديد الاحتجاجية والبحث عن مشتركات معها، وتوضيح أسباب احتجاجك، وشرحه بالطريقة الملائمة والمدعمة بالأرقام والمعطيات، بخاصة أن المواطن الغربي عامة ليست السياسة أو الأحداث التي تحدث في بلدان أخرى من اهتماماته الرئيسية، هذا إن كان يهم المحتج أن يكون له مناصرون من الأوطان الجديدة، ربما لا يدخلون في حيز اهتمام المحتج وما يشغله هو إيصال رسائل لمن يتشاركون معه الجذور فحسب، أو للهيئات الدولية أو الوطنية المختصة. في كل الحالات هذا يقتضي آليات جديدة للإقناع وربما التحول من الاحتجاج الحماسي المناصر أو المنافر إلى الاحتجاج العقلاني المدعم بالأسباب والأرقام حتى لا تغدو أرض الاحتجاج الجديدة منافرة لك!
وتتبدّى أشكال الاحتجاج الجديدة لدى اللاجئين بأشكال عدة: احتجاجات صامتة، واحتجاجات في الشارع، واحتجاجات كتابية، واحتجاجات فنية، واحتجاجات سلوكية، وقد تتبدّى من خلال مقاطعة سلطة البلد الذي تقف ضده من مثل: عدم زيارة البلد، أو مراجعة سفاراته وعدم تحويل الأموال من خلال بنوكه بل بطرق أخرى، وتظهر أحياناً عبر التمسك بالعلم الذي رفعته الاحتجاجات في البلد الأم.
للاحتجاج في البلدان الجديدة آليات من مثل ضرورة الالتزام بمواعيد، والترخيص، والنظافة، وعدم استفزاز المجتمع المحلي أو رفع صور مؤلمة أمام المارة وعدم تعطيل حركة المرور، وتحديد نوع الهتافات أو الشعارات.
الاحتجاج ها هنا غير عنفي ولا أسباب تجعل منه عنفياً، بل قد يتضمن بحثاً عن مشتركات مع جاليات أخرى والتكاتف معها احتجاجياً، وقد يكون الهدف الرئيس منه هو التراكم الاحتجاجي.
على الرغم من كون الاحتجاج، وفقاً لمنظمة العفو الدولية وحقوق الإنسان، ليس جريمة بل حق من حقوق الإنسان إلا أن الحكومات عادة ما ترد بشكل قاس كما قامت الحكومة الفرنسية مؤخراً ضد محتجي السترات الصفر
برز في عدد من البلدان العربية ما يمكن تسميته: الاحتجاج ضد السلطة إلى سلطة الاحتجاج ذاته، ولا سيما في الموجة الثانية من الاحتجاجات التي برزت في العقد الأخير، بيْد أنه من المهم التأكيد أنه في أوروبا السلطة هي للقانون، والاحتجاج مهما كان هدفه أو نوعه يجب أن يبقى تحت القانون، سواء أكان احتجاج اللاجئين لقضايا تخص بلدانهم الأم، كما في خلافات اللاجئين المحتجين في أوروبا خاصة التي تبرز بين الترك والكرد كما ظهر في فرنسا مؤخراً، أم احتجاج الفلاحين في هولندا مثلاً الذين يطالبون الحكومة بتخفيف قيودها على تقييد انبعاثات الغازات أو البحث لهم عن حلول بديلة، وقد كانت أعنف تلك الاحتجاجات عبر الجرارات الزراعية وقطع الطرقات، وكذلك احتجاجات سائقي الباصات والقطارات في السنة الأخيرة التي تبدَّت عبر تخفيف عدد الرحلات في أيام وأوقات محددة، مطالبين بزيادة أجورهم.
على الرغم من كون الاحتجاج، وفقاً لمنظمة العفو الدولية وحقوق الإنسان، ليس جريمة بل حق من حقوق الإنسان إلا أن الحكومات عادة ما ترد بشكل قاس كما قامت الحكومة الفرنسية مؤخراً ضد محتجي السترات الصفر، زاعمة أن السبب في ذلك مبادرتهم إلى استعمال العنف!
لا يكاد يمر يوم في الساحة الرئيسية في أمستردام إلا ويكون فيه محتجون دون أن يقف في وجههم أحد: محتجو التغير المناخي، ومحتجو الدعوة إلى البيئة النظيفة والنباتيون والمثليون والإيغور والداعون للاعتذار عن الحقبة الاستعمارية الهولندية وكذلك السوريون والفلسطينيون والأحوازيون.
وهناك محتج هولندي لا يتزحزح عن ساحة "الدام" يأتي يومياً على دراجته الهوائية، يركنها جانباً، يؤمن بحق لا يتزحزح، يرفع علم فلسطين، ويسْمِع كلّ من يمر الأغاني الوطنية الفلسطينية، لم يسمع بالمفاوضات أو التنازلات أو الحلول، يردّد بثقة أغنية: أنا دمي فلسطيني فلسطيني فلسطيني!