كم من البلاد أيتها الحرية، هكذا سأل نزيه أبو عفش ذات عذاب. وقبله تساءل أحمد شوقي كم من الدماء أيتها الحرية. وسأل كفافي كم من المنافي أيتها الحرية؟ أنا أريد البلاد وأريد الحرية، وأكثر من ذلك أريد وحدة الروح. الروح، كما عند شيلينغ، الواحدة الشاملة للكون، والتي إذ تتوزع بين البشر والشجر والحجر لا تنقص قيراطا ولا تزيد. وحده السجن يكسر هذه الروح، يجزّئها، يفتتها، يحولها إلى ذرات صغير مبعثرة ومتناثرة. وحده السجن يحول هذا الجبار الذي أبحر في الكون وفي النفس واكتشف ميكانيكا الكم وحساب التفاضل والتكامل وقسم السنة إلى ثلاثمائة وخمسة وستين يوما، واليوم إلى أربع وعشرين ساعة والساعة إلى ستين دقيقة وتلك إلى ستين ثانية، وحده السجن يحول هذا الكائن الجبار إلى مجرد كتلة منعزلة من الدم والأحاسيس المريضة والأوهام والانفعالات. فكم من البلاد أيتها الحرية؟ كم من الدماء؟ وكم من الروح؟ كم من القصائد والقبل والدم والجنس المحرم؟ كم من الدموع ذرفت في زوايا المهاجع والزنازين السواليل وغرف التحقيق؟ كم من النساء فقدن وكم من الرجال ركبوا بساط الريح وهربوا؟ كم من الأبراج والنيازك والمذنبات؟
وحده السجن يحول هذا الكائن الجبار إلى مجرد كتلة منعزلة من الدم والأحاسيس المريضة والأوهام والانفعالات
كان واحدا من أقسى أيام السجن عندما قرأنا في الجرائد أن مذنب هالي سيزور كوكبنا في 9 من شباط 1986. آخر مرة زار هذا المذنب الأرض كانت عام 1910، أما المرة القادمة ستكون بعد ست وسبعين أخرى. هذه المرة كان يمكنك أن تكون شاهدا على هذا الحدث التاريخي الذي سيستحيل عليك رؤيته مرة أخرى. وتماما بينما كان ملايين البشر يجتمعون لرؤية هذا الحدث، كنا نحن مرميين كجرائد مهملة لا لزوم لها. وحين طلبنا أن تتاح لنا رؤية المذنب، أجبنا بالرفض والسخرية. كان طلبنا جادا تماما ومشروعا تماما، لكنهم رفضوا. وهم قبل ذلك رفضوا طلبا آخر بأن يتاح لنا القتال في لبنان سنة 1982 ضد اجتياح بيروت، ورفضوا السماح للطلاب بمتابعة دروسهم، وهو حق كان متاحا للسجناء العاديين في السجون المدنية، ورفضوا أشياء أخرى أبسط من ذلك بكثير. وحين مرّ المذنب، اجتاحت المهجع كآبة شفيفة مالحة الطعم وأذكر أنني انزويت في فراشي أحاول استرجاع قصيدة لرياض الصالح الحسين:
يركض في عينيه كوكب مذبوح
وسماء منكسرة
يركض في عينيه بحر من النيون
ومحيط من العتمة الطبقية
في عينيه –أيضًا-
تركض صبيّة جميلة بقدمين حافيتين
يغنّي:
لقد كانت طريّة.. طريّة
كالثلج والينابيع
لقد كانت سنبلة طريّة
ولذلك التقطتها بمناقيرها العصافير
لقد كانت طريّة.. طريّة
تركض بقدمين حافيتين فوق سهل أجرد.
ورياض كان أصم، ولكنه كان يصغي، ويسمع، لأصغر الآهات الطالعة من الصدر. بيد أن هناك أسوأ من الأعمى: ذلك الذي لا يريد أن يبصر، هكذا قال كازانتزاكي. والأسوأ من الأصم هو الذي لا يريد أن يسمع.
مات رياض الصالح الحسين دون الثلاثين. ومات جميل حتمل دون الأربعين. مات فواز الساجر في الأربعين، في السنة التي أوحي فيها إلى محمد. مات إحسان عزو وعبد الكريم درويش ومحمد عبود وخضر جبر وسالم قداح. وجفان حمصي. مات سعد الله ونوس وهاني الراهب وعبد الرحمن حمود. مات أنطون مقدسي وممدوح عدوان وهشام شرابي. مات أبي وماتت أمي وماتت مها وماتت غادة. الموت والسجن والمنافي أوجه لمضمون واحد: تشتت الروح. وجميل الذي عرف الأوجه الثلاثة أدرك الشبه بينها جميعا. قال في إحدى رسائله:" كم بت أكره المشافي والسجون والقلوب المعطوبة وغرف العناية المشددة وغرف التحقيق. كم بت أكره هذه الوحدة القهرية التي تستبد بي والتي تجعلني لا أنام، ولا أفيق، ربما." ثم قال:" كم أتمنى أن أكون هناك، ولو على حافة الموت، لو أكون وأدق الباب عليك، أو على إبراهيم أو علي أو سحبان، لأقول لهم أريد أن أسهر".
"بعد عمر طويل، وسنوات ابتعاد، ومزاجيات، أشعر الآن والساعة الرابعة والنصف صباحا، أنني، كيلا أبكي، مضطر لأن أستنجد بأحد، شخص ما يفهمني ويفهم اضطرابي ونزفي وعاطفيتي وحزني. موجوع جدا يا وائل وكأني أحس بالشلل. لا تصدق (…) أن ثمة وجع أمر من أن تكون وحيدا وغريبا ومنزويا".
****
بين الموت والخوف قرقعة باب يفتح وصوت سجّان يهدر. بلغ الخوف بنا ذروته حين ساقونا إلى تدمر. فتح باب المهجع، وقال لنا المساعد مالك: "ضبوا أغراضكم بسرعة." لا أدري لم بدا لنا صوته مختلفا هذه المرة. مرات عدة جمعنا أشلاء أشيائنا ونقلنا من مهجع إلى آخر. هذه المرة، كان في صوته نبرة مختلفة.
"إلى أين؟" سألنا
" تجمعون أشياءكم ويأخذكم الباص إلى ساحة الأمويين ثم يفلتونكم هناك، فيذهب كل إلى بيته".
لم يكن في كلامه ما يقنع. ولكن ألا نصدقه كان يعني أن نصدق الوجه الآخر الذي لم نكن نريد تصديقه: تدمر. عماد جاء قربي وقال:" أعتقد أنه صادق. ربما يطلقون سراحنا اليوم".
لكم وددت أن أصدقه. بل لعلي صدقته فعلا، ولكن كان على أن أبدي استهانتي بالموضوع.
عاد المساعد مالك بعد قليل، يستحثنا على السرعة. كان مالك مثالا للجلاد الذي يستمتع بعمله، يمضي نهاره في السجن. يضرب ويرفس ويزمجر ويجلد ويقتل، ثم يذهب إلى بيته مساء هانئ النفس قرير العين، فيلاعب أطفاله ويشتري لهم الحلوى. التناقض الغريب أنه نفسه اعتقل فيما بعد وعذب على يدي زملائه ومرؤوسيه ثمّ رمي في الشارع كجرذ ميت.
أليس غريبا أن أجمل المناطق في سوريا ترمز إلى سجون القهر والرعب. أرواد جزيرة صغيرة تنام على كتف طرطوس ويسكنها بحارة وصيادون. تحول اسمها إلى منفى للسياسيين السوريين
حزمنا أشياءنا في صرر وأكياس بلاستيكية، وجلسنا فوقها. رحت أتأمل الوجوه من حولي: صفراء، كالحة، أسقَمَها الترقّب والخوف. عيون بلا معالم، بلا روح، تحدّق في اللامكان، أو في الوجوه الأخرى. ويستعير الرفاق ابتسامات من الزمن الماضي فيرتدونها على وجوههم، ونغضّ الطرف لكي لا نظهر خوفنا القاتل في داخلنا. ثم اخترعنا نظرية "صيدنايا." كنا سمعنا أن سجنا جديدا للسياسيين سوف يفتتح في بلدة صيدنايا. أحدنا رمى الكلمة كحصاة في بحيرة ونحن تلقفناها وبدأنا نبشّر بها. وحتى حين ركبنا الحافلة معصوبي الأعين، مكبلين، كل اثنين بقيد واحد، وراح يسير بنا الباص مبتعدا عن دمشق. ظلّ وهم صيدنايا يداعب خيالنا. من غير المعقول إرسال معتقلي رأي إلى تدمر. أما سجن المزة فتجاوزناه مبتعدين شمالا. إذن هي صيدنايا. ولكن لماذا يرفض هذا القلب البليد أن يصدق هذه الحكاية؟ ولماذا يرتجف في الداخل كعصفور؟ بجانبي جلس حبيب برازي. أمسك بيدي وراح يضغط عليها بإشفاق. ما أنسَ لا أنسى هذه اليد القوية والحنون التي بثّت فيّ رباطة وقوة ودفئا. وإذ راح بعضنا يتهامس بفحيح لا يكاد يسمع، أخذ العسكر المرافقون لنا يزجروننا بكلمات نابية وتهديدات:
" ولا يا عرصة لفرجيك أنت وإياه. بس لنوصل".
وقال آخر: "خبرتهم يجهزوا الحمام".
لم يكن في سخريته ما يطمئن. وأخذ الطريق يمتدّ ويمتدّ حتى بدا بلا نهاية والحافلة تهتز وتتمايل فيميل بعضنا على بعض، ويلوح في ذهننا شبح تدمر – تدمر التي ما بقي في ذاكرة السوريين من تاريخها وعبقها وسحرها وأعمدتها ومدرجاتها ومقابرها سوى تلك المقذرة التي ابتناها الفرنسيون وأحسن السوريون استخدامها كمعقل يكفي ذكر اسمه لكي يرمي الرعب في قلوب أعز الرجال. وبدلا من زنوبيا وقصير والتاريخ العربي الذي قاوم الرومان، يروي السوريون قصصا عن السواليل والمهاجع والزنازين والجوع والبرد والذلّ والحرّ والخوف والقهر. أليس غريبا أن أجمل المناطق في سوريا ترمز إلى سجون القهر والرعب. أرواد جزيرة صغيرة تنام على كتف طرطوس ويسكنها بحارة وصيادون. تحول اسمها إلى منفى للسياسيين السوريين المطاح بهم أو المغضوب عليهم من قبل الفرنسيين. والمزّة التي كانت منتجعا صيفيا لأهالي دمشق تحولت إلى كابوس مزمن لكلّ سياسي مشاغب. وأخيرا صيدنايا، تلك البلدة الهادئة الهاجعة في أحضان القلمون، غدا اسمها مرادفا لاسم السجن هناك وليس لاسم دير صيدنايا أو دير شيروبيم الذي يعود تاريخه إلى القرون الأولى للمسيحية. وأخيرا تدمر!
ثمّ وصلنا.