ثمة سبل كثيرة للمقاومة وإعادة إنتاج الحياة في المجتمعات التي تعيش في ظل أنظمة مستبدة وطاغية تخصص إمكاناتها لتجريف مجتمعاتها من كل ماهر في الحياة المدنية والحراك الفكري والثقافي والفني، وطبعا لا مجال هنا للحديث عن أي حراك سياسي، حيث الفعل السياسي جريمة كبرى سوف يعاقب صاحبها بالاعتقال والتعذيب الذي يصل حتى الموت في أحيان كثيرة، أو على الأقل حتى الانهيار والعطب النفسي.
يحدث هذا في كل الدول المحكومة من قبل أنظمة ديكتاتورية ومستبدة، يحدث هذا دائما وأبدا، لا تلك الأنظمة تتغير أو تحاول تغير سلوكها، ولا الشعوب تتوقف عن المقاومة والرفض، مهما تم تدجينها أو إخافتها أو الفتك بها، ثمة سبل متواصلة ودائمة تجدها الشعوب لتتنفس، ثمة شقوق تجدها في الجدران المصمتة لتتسرب كخيط الماء الرفيع، ذاك أنه لا يمكن حبس الماء داخل جدران مصمتة، ستنفجر الجدران ذات يوم من فرط ضغط الماء، وسوف تفجر معها كل شيء، وربما هذا من الأحوال التي تصلح لوصف ما حدث في الربيع العربي، لا سيما في الدول الأكثر ديكتاتورية واستبدادا، خاصة في سورية على وجه التحديد، حيث اختلف مسار الربيع العربي السوري عن باقي مسارات دوله الأخرى، إذ رغم أنه لا يمكن الحديث عن نتائج إيجابية للربيع العربي في أي دولة شهدته رغم تغيير النظم الحاكمة (لم تكن سوى تغيير للأشخاص بينما بقيت النظم العميقة راسخة كما كان، عدا الفقدان التام للهويات الوطنية لصالح الهويات القبلية والمذهبية)، فإن الوضع السوري يتفوق على باقي الدول بكون النظام بقي كما هو (رئيسا ونظاما كاملا)، كما أن الهوية الوطنية تم إعدامها بالكامل لصالح الهويات المذهبية والمناطقية والقبلية والطبقية وكل أنواع الهويات الضيقة والقاتلة، إضافة إلى التردي المهول في الأوضاع المعيشية داخل سوريا، وإلى الوضع الكارثي لملايين الأطفال السوريين في كل مكان من سوريا أو في مخيمات الدول القريبة، طبعا عدا الاحتلالات المتعددة التي قصمت ظهر السيادة السورية تماما، كل ما سبق يجعل من نتائج ما حصل عربيا في 2011 يختلف في سوريا عنه في باقي الدول، حيث النتيجة السورية هي الأكثر دراماتيكية وكارثية وانسداداً في الأفق أو آليات التغيير الممكنة لإيجاد حل للخروج من عنق الزجاجة.
يعيش سوريون كثر حتى اللحظة في سوريا، رغم كل الظروف السيئة، أو بالأصح يصرّ سوريون كثر على الاستمرار في العيش داخل سوريا ورفض مغادرتها رغم أن إمكانية المغادرة متاحة لكثير منهم، ومع ذلك يرفضون المغادرة إيمانا منهم أن سوريا لهم (فقدت هذا الإيمان منذ زمن)، مهما طال الزمن ومهما استبد وطغى من يتعاملون معها بوصفها ملكية أو مزرعة عائلية متوارثة، يصرون على احتمال ما لا يحتمل من شظف العيش وخطورته في ظل انعدام الأمان وانتشار السلاح والتشبيح وعصابات السرقة والخطف، وبطش القبضة الأمنية حتى اللحظة، يصرون على البقاء لأن في فعل البقاء مقاومة، (وهو خيار لا بد من احترامه والانحناء له وتعظيمه، رغم ما يتعرض له هؤلاء من تخوين من قبل كثر ممن غادروا سوريا إلى أماكن مختلفة)، ذلك أن ما تتعرض له سوريا من محاولات لتغيير ديمغرافيتها يظهر أن خيار البقاء كان هو الأفضل لمن يتمكن من البقاء، فاحتمالية عودة من خرجوا ذات يوم باتت شبه مستحيلة، حتى لو حدثت المعجزة وتغير النظام في مفاجأة ما، بما يعودون لإطفاء موجة الحنين، لكن الغالبية منهم قد استقرت في مجتمعات جديدة آمنة تحترم إنسانيتهم وحقوقهم وتؤمن مستقبلا لا خوف فيه لأبنائهم (من سيترك كل هذا ليعود إلى بلد مدمر بالكامل ويحتاج إلى خمسين عاما على الأقل كي يعود صالحا للعيش؟).
يواصل سوريون أيضا سيرتهم في الفنون، يرسمون وينحتون ويقيمون معارض مهمة ويحضرها العشرات أو المئات، ينجزون مسرحا وسينما ودراما، يفعلون كل ما يمكنهم من البقاء على قيد الحياة
ومثلما البقاء هو فعل مقاومة، كذلك هي التفاصيل اليومية التي يفعلها سوريو الداخل، كأن يسجل أحدهم يوميات ما يحدث، يرصد أوضاع السوريين بعين بصيرة وقلب حنون، يسجلها كما لو أنها حرز سوف يحفظ مكابدات السوريين من التلف مع مرور الأيام والزمن، يسجلها لتكون شاهدا على تاريخ سوري سوف يكتبه من يعتقد نفسه منتصرا، وسوف يمحو منها تفاصيل المهمشين والبائسين، ذلك أن من يتصدرون أحداث التاريخ هم أصحاب القوة والسلطة والمال، أما المهمشون والفقراء فهولاء يصلحون كديكور في مشهد تاريخي لا أكثر، هكذا يتحول التوثيق إلى فعل مقاومة، مثله مثل الكتابة، حين يواصل من بقي هناك من كتاب سوريا الكتابة بلا توقف، يصدرون كتبهم ويواصلون الاحتفاء بما ينجزونه، يجتمعون بقصد الاحتفاء، وهو أمر لمن يعرف واقع الحال في سوريا، عظيم أن يجتمع سوريون بقصد الاحتفاء بصدور كتاب لأحدهم بينما البرد والظلام يخيمان على العاصمة هو فعل مقاومة لا يفوقه فعل في ظل هذه الظروف، يواصل سوريون أيضا سيرتهم في الفنون، يرسمون وينحتون ويقيمون معارض مهمة ويحضرها العشرات أو المئات، ينجزون مسرحا وسينما ودراما، يفعلون كل ما يمكنهم من البقاء على قيد الحياة، بينما كل ما يحيط بهم يدفعهم للموت قهرا أو هربا.
ثمة سبل كثيرة للمقاومة في بلد مثل سوريا، لم يعد يشبه البلاد ولا الأوطان في شيء، بلد فاشل ومحطم ومدمر ومنهوب ومحتل ومكسور وحزين وظالم ومظلم وبارد ومنفر، ومع ذلك يخترع سوريّوه طرقهم لإكمال حياتهم وعيشهم فيه كي يتذكر التاريخ ذات يوم أن ثمة سوريين أصليين عاشوا هناك، وأنه رغم كل محاولات التهجير والتغيير لطبيعة الناس ومحاولات استبدالهم بآخرين، ظل سوريون يعيشون في البلدان يقاومون بأنبل أفعال المقاومة: الكتابة والفنون.