بابتسامة واثقة وكلمات عفوية خالية من التجريح والمزاودات، وشكل لطيف قريب من أشكالنا نحن العاديين أبناء المنطقة العربية التي تعيش في عالمين موازيين، عالم الحقيقة المؤلم وعالم الافتراض الوردي، ظهرت الفنانة السورية يارا صبري، في لقاء مصور على قناة المشهد مع الإعلامي محمد قيس بعد غياب دام عدة سنوات، وأخبرتنا بأن الفن ممكن أن يكون رسالة، "جربتها وظبطت".
ولدت يارا صبري في سوريا، "مملكة الصمت" أو ما يعّرفها الباحث الفرنسي الراحل ميشيل سورا "سوريا.. الدولة المتوحشة"، نال فيها الفنانون كما تقول (يارا) امتيازات لدى السلطة ولدى المجتمع السوري بحكم الجماهيرية والمحبة.
تعد يارا (وهي ابنة لعائلة فنية معروفة، الفنان القدير سليم صبري وزوجته الراحلة ثناء دبسي) من الممثلات السوريات المعروفات اللواتي عملن على وضع بصمة مهمة في الدراما السورية من خلال عشرات الأعمال الدرامية وكان من أبرزها، خان الحرير والثريا والفصول الأربعة والتغريبة الفلسطينية والانتظار وقلوب صغيرة وتخت شرقي ووجوه وأماكن وأوركيديا" وغيرها كثير، حقق لها حضوراً محلياً وعربياً مهماً وراحة مادية جيدة.
وكانت يارا على انخراط مباشر بمشكلات المجتمع السوري وسلطت الضوء على حجم الفساد والمشكلات التي تعاني منها سوريا عام 2009، حيث شاركت في كتابة مسلسل "قلوب صغيرة" مع الناشطة والكاتبة السورية ريما فليحان.
ماذا فعلت يارا صبري؟
كان عام 2011، عاماً مفصلياً بالنسبة ليارا صبري وملايين السوريين الذين شهدوا لحظة استثنائية أوقفت الزمن، وطلبت من كل منا أن يكون له موقفاً، ببساطة حددت يارا موقفها في مناصرة الشعب.
انطلق السوريون إلى قدرهم، حاملين في أعماقهم تاريخ حريات الشعوب، يغنون ويهتفون
إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ
فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ
ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي
ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ
بالنسبة للنظام السوري كان موقف يارا صبري، خروجاً عن الطوق، ليس فقط بالنسبة للفنانين الذين ينعمون ببعض الامتيازات، إنما لأي شخص مهما كانت خلفيته الثقافية أو المجتمعية، النظام يعطيك أو ما يختصر بـ "الوطن" يعطيك خياران لا ثالث لهما، الصمت أو التأييد (التشبيح بمعنى آخر).
ماذا فعلت يارا صبري؟ لا شيء بالمعنى السياسي، وقعت على بيان لأجل أطفال درعا بهدف إدخال المساعدات الإنسانية لهم وتجنيب المدنيين أي عنف عسكري، ونشطت في توزيع بعض المساعدات، ثم وضعت حسابها على موقع فيسبوك لنشر أخبار عن المعتقلين المغيبين في سجون النظام، إلا أن كل ما فعلته يعد جريمة كبرى في "المزرعة السورية".
لم تشارك يارا صبري بمظاهرة واحدة، ولم تطالب بإسقاط النظام. لم تحمل السلاح ولم تموله، كما أنها لم تنضم إلى أي حزب معارض داخل أو خارج "سوريا الأسد".
وبعد تهديدات ومضايقات ومنع سفر ثم مراجعة أمنية وتحذيرات من فروع الأمن بضرورة الصمت، خرجت يارا صبري من سوريا منتصف عام 2012، ولم تعد إلى اليوم.
كانت يارا من بين مجموعة من الفنانين السوريين الذين انحازوا للثورة السورية منذ أيامها الأولى، معتبرين أن وقت التغيير قد حان، وكانت مواقفهم وأسلوب تضامنهم مع الناس متبايناً، إلا أنه لدى النظام، الجميع في سلة واحدة، ولذلك كانوا جميعاً مطلوبين لفروعه الأمنية.
كان عام 2011، عاماً مفصلياً بالنسبة ليارا صبري وملايين السوريين الذين شهدوا لحظة استثنائية أوقفت الزمن، وطلبت من كل منا أن يكون له موقفاً، ببساطة حددت يارا موقفها في مناصرة الشعب.
"مواقفي ربحتني نفسي والناس"
في المقابلة التي ظهرت بها "صبري" تحدثت بشكل مباشر وواضح عن مناصرتها للثورة السورية، وعدم ندمها عن موقفها الذي يعبر عن أخلاقها وكيف تربت على نصرة الناس ومساعدتهم وأن تكون صوتهم، لا تقودهم ولا تحرضهم ولا تطالبهم بشيء لا تفعله، ولكنها لا تقف ضدهم.
وقالت: "مواقفي ما خسرتني شي، مواقفي ربحتني نفسي والناس. أنا شخص بتحمل جداً مسؤولية قراراتي ومواقفي، بتألم أي بس ما بلوم حالي، لأني منطلقة من مبدأ، أنا خلقت بهذا المكان ، أنا ربيت بطريقة خلتني اتخذ هاي القرارات اللي أنا بشوفا بالنسبة الي ترضيني جداً، وترضي ضميري، ترضي تاريخي، ترضي ولادي لما بدهم يحملوا اسمي بالمستقبل مو من مستوى إني فنانة لا من مبدأ إنساني".
وأضافت أن بشار الأسد خذل سوريا .. القائد هو المسؤول الأكبر بالدرجة الأولى. وقد يكون هناك مؤامرة في سوريا ولكن الذي يدير البلد كان يجب أن يقف في وجهها لا أن يكون طرفا وما حصل أن الشعب قتل وتشرد وهو (الأسد) موجود!".
وشددت أيضاً "بالنسبة لي ما حصل ثورة والشعب ثار بسبب الفساد القضائي والإداري والاجتماعي الموجود من قبل عام 2011 وأنا لست بطلة ثورة أنا وقفت إلى جانب الناس المظلومين رغم أنه كان لدي امتيازات في البلد".
"أنا ما تغيرت على فكرة"
في معظم المقابلات مع الممثلين السوريين أو المطربين خلال الأعوام الأخيرة من هدوء المعارك وتثبيت حكم الأمر الواقع، كان السؤال الموحد الموجه لهؤلاء المشاهير ما رأيك بعودة (أصالة، جمال سليمان، مكسيم خليل، يارا صبري، وغيرهم) إلى سوريا، طبعاً الجميع يقولون نفس الإجابات تقريباً، سوريا ترحب بهم، والباب مفتوح والاختلاف السياسي لا يفسد للود قضية.
ويبدو أن مثل هذه الأسئلة تكون مطلوبة من مقدمي هذه البرامج من الفروع الأمنية السورية التي تحاول منذ سنوات العمل على تطبيع العلاقات مع الدول العربية وإعادة الوضع في سوريا إلى ما قبل عام 2011، كما أنها فرصة لوضع اللائمة على الفنان أو الفنانة "المعارضين" بأنه هو لا يريد العودة رغم أن الباب مفتوح للجميع.
والجميع يعرف بما فيهم الممثلون أو المطربون الذين يصرحون بذلك، أن العودة إلى سوريا غير ممكنة في حال كنت مطلوباً للفروع الأمنية إلا إن اعتذرت وتقدمت بطلب تسوية وكأنك "مجرم"! وهناك آلاف حالات اعتقال لأشخاص عادوا إلى سوريا واعتقلوا من الحدود أو من بيوتهم بعد عودتهم كثر منهم لم يكونوا مطلوبين أو مشاركين بالثورة السورية.
يارا صبري مثل ملايين السوريين الذين تهجروا قسرياً أو بخيارهم وحرموا من رؤية ذويهم في كل المناسبات، بإفطارات رمضان، والأعياد، والأفراح والأحزان. السوريون اليوم في شتات كبير، ويارا واحدة منهم.
في دمشق تعيش عائلة يارا، مرضت الفنانة ثناء دبسي ولم تتمكن يارا من وداع والدتها في أيامها الأخيرة وأن تشارك والدها أحزانه وتأخذ العزاء بأمها، في لحظة إنسانية محزنة وصعبة.
عن ذلك تقول يارا صبري: "أنا ما طلبت أحضر جنازة أمي، لأن مو هذا المهم، المهم ومن حقي أني كون عايشه بالبلد كإنسان طبيعي والي رأيي والي كلمتي وكون عايشه وكون مع أهلي وما انحرم منهم مثلي مثل كثير ناس، أنا شو تغير بموقفي حتى ينطلب مني أو يسمح الي ولغيري نرجع على سوريا، أنا ماتغيرت على فكرة، أنا ما تغيرت، أنا بعدني مثل ما أنا، يعني موقفي هذا هو، اللي هو رأيي اللي هو حق الي، واللي أنا ما بئذي فيه حدا، أنا لست تابعة لأحد، ولست مؤمن بأي كيان سياسي موجود بالبلد وكل الأطراف ما بتمثلني وانتظر المناسب لقول أوك".
هذه التلقائية والتصالح مع الذات والعقلانية التي قدمتها يارا صبري، تعبر عن خطاب محترم، تجده بين معظم الفنانين الذين انحازوا للثورة السورية، وكانوا سبباً للتأكيد على أن الفن يمكن أن يكون رسالة سامية، وليست مجرد انتفاع وسوق مصالح ومجموعة "شبيحة" لا يهتمون لأمر أهلهم وناسهم.
سؤال الأخلاق
لطالما كان سؤال الأخلاق، سؤالاً مؤرقاً، فالأخلاق التي قامت عليها معظم الأفكار النبيلة على آلاف السنين، وضعت الإنسان أمام مسؤولية ذاتية، كانت ولا زالت ثابتة ولا تتغير وتمارسها قوة جوانية تتعلق بضمير الإنسان وتربيته ودينه وثقافته.
أرادت الثورة السورية في لحظتها الأولى، أن تحقق الحرية لجميع السوريين على مختلف أشكالهم وألوانهم ومشاربهم وخلفياتهم، لم تحقق غياتها لكثير من الظروف المحلية والدولية وتعقيد المشهد، ولكنها في أصلها فكرة نبيلة تحررية.
في معظم لقاء يارا صبري، الذي يغلب عليه اللطف والابتسامات والواقعية، كانت تنطلق من حقها الطبيعي في التعبير عن رأيها، مؤكدة أن شيئاً لم يتغير في سوريا، الوضع على حاله، نفس الأشخاص يحكمون بانتخابات، لم تشارك فيها ولا مرة واحدة، بل أكّدت أنها كانت "بيعة" تصل لـ 99.99 قل عام 2011، أما في الانتخابات الأخيرة بنسبة 80 بالمئة.
ولعل كلماتها تعبر عنها جملة "فولتير" الشهيرة: "قد أختلف معك في الرأي، ولكنّني مستعد أن أدفع حياتي ثمناً لحقّك في التعبير عن رأيك". دفع سوريون كثر حيواتهم ثمناً غالياً ليكون الجميع أحراراً.
آلاف من عائلات المعتقلين السوريين كانوا يرسلون أسماء أبنائهم ليارا صبري لتكتب أسماءهم وتسأل عنهم من يخرج من السجن، كانت أكبر صلة وصل بين المعتقلين وذويهم، "بدنا ياهم بدنا الكل" من خلال حساب لشخصية مشهورة أحدثت فارقاً إنسانياً، بالسؤال عن معتقل لا يخضع لأي حقوق طبيعية، يقتل تحت التعذيب ولا يدري به أحد، كانت يارا صبري تكتب اسمه ولا تعتبره مجرد رقم، بل هو مواطن سوري غيّب تحت أرض بلاده ولا يعرف عنه أهله شيئاً.
هذه التلقائية والتصالح مع الذات والعقلانية التي قدمتها يارا صبري، تعبر عن خطاب محترم، تجده بين معظم الفنانين الذين انحازوا للثورة السورية، وكانوا سبباً للتأكيد على أن الفن يمكن أن يكون رسالة سامية، وليست مجرد انتفاع وسوق مصالح ومجموعة "شبيحة" لا يهتمون لأمر أهلهم وناسهم.
هذه النظرة للكاميرا بين حين وآخر، كانت تقول للناس "أنتم على حق، يا جماعة كيف يعني أنتو غلط؟، طبعاً أنتو الصح، هي الثورة كانت صح، لا تقبلوا تخسروا مواقفكم ومبادئكم وأخلاقكم كرمال أي شي، هي أنا مثال حي عنكم متلي متلكم، خسرت كل شيء وكسبت حالي".
لطالما شعرت أن السوريات لا يجدن من يمثلهن بشكل كافٍ، دائماً هناك حالة أيديولوجية أو ثقافوية في اللواتي يدافعن عن حقوق السوريات، قدمت يارا صبري في هذه المقابلة حالة مختلفة، عن القوة والأمل والحلم بابتسامة دائمة وثبات على الموقف.
في النهاية، هذا الصراع السوريالي الذي يعيشه السوريون، قد لا ينتهي قريباً، مرت به يارا بجواز السفر السوري الذي يحرم المواطن من أقل حقوقه بالتنقل، في بلد تقوده عصابة قد تحرمه من الحياة كلها، والجميع يعرف ذلك، حتى أكثر الشبيحة أو المؤيدين انحيازاً للنظام، يعرف أن الحق مع الناس، وحجم الظلم موحش، وكل سوري يتمنى لو يكن له وطن آخر إلى جانب سوريا الغارقة بالفشل والظلم والتوحش والجنون.
تم تسجيل هذا المقال صوتيًا بالتعاون مع منصة ناشر