لا أظن أن أحدا من العرب يعول كثيرا على جامعة الدول العربية، وعلى القرارات التي تصدرها، بمن في ذلك مسؤولو الجامعة أنفسهم. فإذا استثنينا بعض القضايا المعدودة التي نجحت فيها جامعة الدولة العربية، لأنها كانت محل إجماع بين الدول العربية، فهذه المنظمة عبر تاريخها كانت صوت الأنظمة العربية لا صوت الشعوب، ومكانا يستعرض فيه القادة العرب عجزهم اللغوي، وألبستهم الأنيقة، وساعاتهم الثمينة، مثلما كانت أمانتها منصبا يجد فيه وزراء خارجية مصر حسن الختام.
في ضوء ما سبق، لا يمكن أبدا فهم ردود الفعل الغاضبة على عودة النظام السوري إلى الجامعة، ودعوة رئيسه لحضور القمة الأخيرة في جدة، ولاسيما أن تلك الردود والتعليقات تجمع على استحالة قدرة النظام العربي على انتشال النظام السوري من القاع الذي وصل إليه، كما تجمع على عجز هذا الأخير عن الالتزام بالشروط الواجب الالتزام بها لضمان عودته إلى الجامعة العربية.
استعراض ما يكتبه جمهور الثورة على وسائل التواصل الاجتماعي يعزز فكرة عجز الجامعة عن انتشال النظام وإعادة تأهليه، ويشير بوضوح إلى غياب فعالية الجامعة العربية، غير أن المنشورات والتعليقات تسودها لغة تنضح بالألم والحزن، وتشيع فيها مفردات البكاء والخدلان والخسارة. وهذا أمر يمكن فهمه لأن جمهور الثورة كان لديه اعتقاد أن جامعة الدول العربية، وخصوصا الدول المؤثرة والمركزية كالمملكة العربية السعودية ومصر، لا يمكن أن تقترف مثل هذا الخطأ الذي يرقى إلى مرتبة الخطيئة الأخلاقية والسياسية معا. فهذا النظام ارتكب كل الموبقات التي لا تستطيع تلك الدول أن تقبل بها، كالقتل والتهجير والاستعانة بميليشيات طائفية لتهجير الناس وقتلهم. ويمكن استخلاص عنصرين تركز عليهما تلك الكتابات، وهما عنصران يتكرران تقريبا في كل ردود الفعل من قبل جمهور الثورة، أعني: مروءة الجاهلية، وأخلاق الإسلام.
يقول المحدد الأول: إن النظام أجرم بحق السوريين بحيث لا يمكن لهذه الجرائم أن يغفرها أهل الجاهلية أنفسهم الذين كانوا بلا دين، ولكنهم امتلكوا مروءة هي مقياسهم في الحكم على الأمور، ولهذا لا ينبغي على العرب من هذا المنظور أن يعيدوا النظام
يقول المحدد الأول: إن النظام أجرم بحق السوريين بحيث لا يمكن لهذه الجرائم أن يغفرها أهل الجاهلية أنفسهم الذين كانوا بلا دين، ولكنهم امتلكوا مروءة هي مقياسهم في الحكم على الأمور، ولهذا لا ينبغي على العرب من هذا المنظور أن يعيدوا النظام، فحتى لو كان بعض القادة العرب بعيدين عن الدين، فإنهم أحفاد هؤلاء الجاهليين ذوي الأخلاق العالية. أما المحدد الثاني فهو يخاطب فيهم الوازع الديني الذي يحرم على أي فرد أن يضع يده في يد مجرم اقترف من الجرائم ما لا يمكن قبوله، ناهيك طبعا عن الغمز من الناحية الطائفية، على اعتبار أن النظام مختلف في تركيبته الطائفية عن تركيبة بقية الأنظمة العربية، الأمر الذي يجعل إعادة قبوله خطيئة دينية أيضا.
يبدو، والحال على ما وصفناه، أن المشكلة تكمن في الوعي الذي يحرك جمهور الثورة الذي يتحكم به محددان أساسيان هما العروبة والإسلام، فقد كان هذا الجمهور يتوقع أن تقوم دول أخرى بمهمة تعويم النظام أو محاولة تعويمه، لأن تلك الدول تفتقد إلى مروءة الجاهلية أو أخلاق الإسلام أو كليهما معا.
والحقيقة أن المرء يقف حائرا أمام هذه الرؤية، ولاسيما أن الأديان كلها بلا استثناء لا تقبل هذه الممارسة، فلا الأديان السماوية ولا الأرضية تبيح التعامل مع مجرم أو الوقوف في صفه، ولكن المعضلة تكمن في الرؤية الإيديولوجية التي ينظر من خلالها جمهور الثورة. فبعيدا من أن ردود الفعل المشار إليها لا تنطلق من رؤية علاقات القوة وإدراك التوازنات القائمة، فإنها إضافة إلى ذلك تقع أسيرة وهم المحددين السابقين. وهو وهم ينبغي توضيحه وتحليل مضامينه وإدراك أسباب بقائه حتى الآن.
يخيم على جمهور الثورة وهمان: وهم الأمة المثالية، ووهم الدين المثالي. وكي لا يساء فهمي، فإن ما أقصده بالدين المثالي هو الدين كما جرى تطبيقه لا الدين بما هو نصوص مقدسة. وهذان الوهمان يكادان يسيطران لا على جمهور الثورة وإنما على العقل العربي منذ منتصف القرن العشرين، أي منذ تراجع الحركة العقلانية العربية بصيغتها الليبرالية وظهور تيارات فكرية وسياسية جديدة قائمة على التعبئة الإيديولوجي لا القراءة العقلانية.
مثالية الأمة هي نتاج طبيعي لأي خطاب قومي، فعادة ما يرتكز هذا الخطاب على تفوق الأمة أخلاقيا على ما سواها. لقد تلقى هذا الخطاب طعنات قاتلة في مركزه الأوربي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولاسيما بعد ظهور الكثير من القوانين التي شذبت هذا الخطاب وضيقت عليه في الفضاء العام، ووصلت إلى حد تجريم بعض عناصره ومقولاته، نظرا لما خلفه من خراب، ولكن هذا الخطاب لم يتعرض للنقد في عالمنا العربي بغية وضعه في سياقه الصحيح، بل أسهمت المناهج الدراسية بتكريسه وتقديم سردية للتاريخ العربي تقترب من حدود الكمال، فمروءة الجاهلية، بحسب تلك السردية، اندغمت بالإسلام الذي أقام العرب إمبراطورية عظيمة نقلت شعوبا كثيرة من الانحطاط والهمجية إلى عالم الحضارة. هذه هي الصورة التي رسمتها كل كتب التاريخ المدرسي وغرستها في أذهان أجيال من الطلبة، من دون أن تشير هذه السردية على سبيل المثال إلى خطأ أخلاقي واحد ارتكبه العرب عبر تاريخهم الطويل. وهذه الأجيال نراها اليوم في وسائل التواصل الاجتماعي تعبر عن غضبها انطلاقا من الموروث الذي تلقته في المدرسة والإعلام والمسلسلات التاريخية وسواها.
أما الوهم الثاني الذي يقع فيه جمهور الثورة فهو وهم الدين المثالي، وهو وهم مستحدث كسابقه، أسهم في نشوئه الخطاب الإسلامي منذ السبعينيات، حين بدأ بتقديم صورة للتاريخ العربي-الإسلامي تتوافق مع أعلى المعايير الأخلاقية، وذلك عبر تشذيب التاريخ من الصور المظلمة، و السكوت عن الانتهاكات الفظيعة التي تملأ جوانبه، وتقديم سردية قائمة على أن هذا التاريخ يتوافق مع المثل الأخلاقية كما هي في النصوص الإسلامية، وكان للدعاة والوعاظ والكتاب إسهام في ترسيخ هذا الوهم عبر الكتب والمحاضرات والندوات، وكان الإسهام الأكبر من نصيب الفقيه الفضائي الذي دخل كل بيت.
إن معرفة العناصر التي تتحكم بالوعي هي الخطوة الأولى لتشريح تلك العناصر وإظهار ما فيها من عيوب ثقافية، أملا في وضع تلك العيوب والمثالب تحت مجهر النقد ومحاولة تجاوزها لاحقا. لقد آن الأوان للخروج من الأوهام والنظر ببرود العقلانية إلى العالم من حولنا.