المتابع لتغطية الإعلام البريطاني لوفاة الملكة سيجد أنها نسخة مماثلة للبروبوغندا التي تمارسها عادة الدول الشمولية في أثناء موت زعمائها، كما رأينا ذلك في أثناء وفاة حافظ الأسد والزعيمين الكوريين الشماليين السابقين وغيرهم من الديكتاتوريين، فقد قطعت المحطات برامجها المعتادة، وشرعت بإذاعة التقارير عن مسيرة حياة الملكة، والتزامها بخدمة الشعب البريطاني، وصورتها في الوعي العام، وشملت التغطية كل ما يتصل بالملكة تقريبا: الأحداث التاريخية التي مرت بها، زياراتها الخارجية، حياتها الأسرية...إلخ، ولم تقتصر هذه التغطية على مساحة البث التلفزيوني والإذاعي بل احتلت صور الملكة الأمكنة العامة، وإضافة إلى هذه الآلة الإعلامية الضخمة، شاهدنا صفوفا طويلة من المعزين الذين يقفون لأكثر من عشر ساعات لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة على جثمان الملكة.
وعلى الرغم من الملاحظات الكثيرة المحقة التي يمكن تسجيلها حيال التغطية الإعلامية، فمن الممكن تفهم موقف الإعلام البريطاني الذي صحا كل العاملين فيه على الدنيا ليجدوا إليزابيث ملكتهم التي لم يعرفوا سواها، غير أن الأمر يغدو مثار تساؤل حين نرى أن أغلب وسائل الإعلام العربية -حتى لا نقع في خطأ التعميم-كانت ملكية أكثر من الملك، إذ شاهدنا احتفاء بالملكة الراحلة وأخبارها وتاريخها، وتقارير عن لقاءاتها بقادة المنطقة وزياراتها لها...إلخ.
الإعلام العربي يغرد بعيدا عن التوجهات السياسية والفكرية للجمهور العربي، إن لم نقل إنه يقوم بدور مضلل. وهو أمر يطرح أكثر من علامة استفهام
ربما تعكس التغطية العربية المكثفة رغبة مضمرة لدى كثير من الدول في أن تكون على شاكلة مؤسسة الملكية البريطانية في عراقتها وقدمها، وهو ما تفتقده دولنا حديثة الولادة، ولكن الصحيح أن هذه التغطية خضعت لمنطق الخطاب الاستشراقي، فكانت نسخة طبق الأصل عن التغطية البريطانية للحدث، من حيث إبراز الجوانب الإنسانية والشخصية للملكة الراحلة، والسكوت التام عن دور بريطانيا في منطقتنا. فقد تجاهل الخطاب الرسمي الذي رأيناه على شاشات التلفزة التركة الاستعمارية البريطانية، بل لهجت بعض الأصوات القريبة من الدوائر الرسمية بالثناء على بريطانيا التي لولاها-بحسب تلك الشخصيات-لما كان لبعض الدول العربية، اليوم، وجود على الخريطة السياسية، ولهذا فمن الواجب تقديم الشكر لها وإبداء التعاطف والحزن على الملكة الراحلة.
بناء على هذه الحقيقة، يبدو أن الإعلام العربي يغرد بعيدا عن التوجهات السياسية والفكرية للجمهور العربي، إن لم نقل إنه يقوم بدور مضلل. وهو أمر يطرح أكثر من علامة استفهام، إذا قارنا بين تغطية الإعلام العربي لهذا الحدث، وتغطية جزء كبير من الإعلام العالمي، ولاسيما في عدد من الدول الأفريقية والمنابر الناطقة باسم اليسار الأميركي. فتغطية وسائل الإعلام في كثير من الدول جاءت مناقضة لما شهدناه من حفلات التبجيل التي قام بها الإعلام الرسمي العربي، فقد ركز الكتاب والأكاديميون والصحفيون على التاريخ الاستعماري والانتهاكات التي ارتكبتها الملكية البريطانية عبر تاريخها، أي كانت التعليقات أقرب إلى محكمة إعلامية للملكية البريطانية وتاريخها.
ولم تقف تلك الانتقادات على الإرث الاستعماري فقط، بل تناولت مؤسسة الملكية نفسها، فقد سلطت وسائل الإعلام الضوء على عزلة هذه المؤسسة عن عالم اليوم، فهي تمثل استمرارا لعالم العصور الوسطى في قلب الحداثة، لا من خلال تقاليدها المستمدة في جزء كبير منها من نظام القيم الإقطاعي فحسب، بل من كونها واحدة من أكبر ملاك الأراضي في بريطانيا. ولم يقف اليسار البريطاني مكتوف الأيدي، فقد علت الأصوات مجددا تنتقد غياب العدالة، فالعائلة الحاكمة تحظى بامتيازات لا تتوفر لعامة الشعب، وتحصل على ملايين الدولارات من جيوب دافعي الضرائب، بل جرت الإشارة إلى أن القصور الملكية البريطانية تحتوي عددا غير محدد من المجوهرات والقطع الأثرية المنهوبة من العالم الثالث، ولم ينس المعلقون الحديث عن بقاء الملكية أسيرة للخطاب الكولونيالي والتمييز العرقي في الوقت الذي تحولت فيه بريطانيا نفسها من دولة استعمارية إلى دولة تتبنى خطابا قوميا مضادا للاستعمار Anti-colonialism.
يعكس الاختلاف في التغطية الإعلامية اختلافا أعمق، هو الموقف من الإرث الاستعماري، وخصوصا البريطاني، فقد كانت وفاة الملكة فرصة للتذكير بالفظائع الاستعمارية بحق السكان الأصليين في أفريقيا والهنود الحمر في أميركا الشمالية، وكذلك دور بريطانيا في تجارة العبيد والنهب الاستعماري، وهي قضايا لا يمكن القفز فوقها بادعاء أن الملكة لا علاقة لها بأفعال الحكومة البريطانية، هذا في الوقت الذي يتباهى به الخطاب الإعلامي والسياسي الرسمي بأن بريطانيا بلد عظيم بسبب ما قامت به الملكة من أفعال، إذ كيف يمكن أن تكون الملكة سببا لعظمة بريطانيا من دون أن تتحمل المسؤوليات عن الفظائع التي ارتكبت باسمها، ولاسيما انتفاضة ماو ماو الشهيرة في كينيا، والتي قتل فيها عشرات الآلاف، وتعرض فيها أكثر من مليون شخص للاعتقال والتعذيب والاغتصاب، وكذلك الدور البريطاني في مقتل مليون شخص في حرب بيافران في نيجيريا.
غير أن هذا الموقف الناقد للإرث الاستعماري لا يعبر عن أفكاره لمجرد النقد فقط، إذ إن لديه مطالب واضحة: الاعتراف بالجرائم التي تعرضت لها المجتمعات المحلية والسكان الأصليون بما في ذلك عمليات التطهير العرقي والتدمير المتعمد لأساليب العيش التقليدية في تلك المجتمعات تحت ذريعة تطويرها وتحديثها، والاعتذار عن الانتهاكات السابقة، وتعويض الدول والمجتمعات المحلية التي تعرضت لتلك الفظائع.
الموقف الإسلامي ما يزال أسير الرؤية التقليدية التي تنظر إلى العالم من خلال ثنائية دار الكفر/ دار الإسلام، فهو خطاب عدمي يريد صراعا دائما مع العالم
هذا الموقف الذي يحدد مطالبه، ويعرف ما يريد، يقع على النقيض من الموقف المناهض للاستعمار في بلادنا، والذي ظهر في خطاب التيارات الإسلامية، وخصوصا الآراء التي تناولت وفاة الملكة في وسائل التواصل الاجتماعي، فعلى الرغم من الاتفاق مع الأصوات العالمية التي بينت بشاعة الانتهاكات الاستعمارية، فإن الموقف الإسلامي ما يزال أسير الرؤية التقليدية التي تنظر إلى العالم من خلال ثنائية دار الكفر/ دار الإسلام، فهو خطاب عدمي يريد صراعا دائما مع العالم، ولأنه لا يحاول البحث عن نقاط يمكن على الأقل من خلالها محاكمة الحقبة الاستعمارية بعيدا من الزاوية الدينية، فهو مشغول بالتقوقع والبحث عن أي ذريعة لإغلاق الاتصال مع العالم.
الطريق أمامنا طويل، فعقدة النقص ما زالت تسيطر على شرائح واسعة لا ترى في المستعمر إلا تقاليده الجميلة العريقة، بينما يريد قسم منا النزول من ركب الحضارة والانزواء في عالم الأجداد.