يعرف دارسو التاريخ، خاصة مرحلة العصور الوسطى، أنه في تلك المرحلة لم يكن قد اخترعَ بعد المرحاض، أو التواليت كما يطلق عليه البشر الآن.
لذلك كان الناس يقضون حاجتهم في البراري، بينما الملوك في تلك الأيام فقد كان لديهم خدم دائمون مهمتهم هي تجهيز وتقديم وعاء مخصص للتبول، فالملك هو الملك ومن غير المعقول أن يقضي حاجته في البراري.
سأترك هذه الفقرة الآن مؤقتاً.
تعميم مفاهيم الغزو الثقافي وعدم الاعتراف بإسرائيل
ورث السوريون بسبب الأحزاب السياسية، بكل أشكالها، اليسارية والدينية، جملة من المفاهيم والمصطلحات، كان من الصعب عليهم في مرحلة ما تفكيكها بغاية نقدها. فحزب البعث الحاكم ورّث كتّابه خاصة في اتحاد الكتاب العرب، وصحفييه وقراءه تلك المنظومة. فمثلاً حين كان حافظ الأسد يفاوض إسرائيل حول السلام واسترجاع الأراضي السورية المحتلة في تسعينيات القرن الماضي، كانت كمبيوترات صحفه الثلاث قد تمّ برمجتها على وضع كلمة إسرائيل بين قوسين، والغاية طبعاً هو تنبيه القارئ إلى عدم الاعتراف بإسرائيل.
ليس هذا فحسب، فعندما كان الناس يقفون ساعات في طابور الانتظار للحصول على البندورة والليمون والخبز في ثمانينيات القرن الماضي، كان كُتاب صحف النظام قد انشغلوا بتعميم مصطلح الغزو الثقافي، متقاطعين في ذلك مع عموم التيارات الإسلامية التي ترى في الغرب وعلمانيته عدواً أبدياً لها.
حزب البعث الحاكم حتى اللحظة، مازال يعمّم مفاهيم المؤامرات الكونية ومصطلحات الصمود والتصدي وقهر القوى الكبرى.
عموم اليسار وخاصة من كان منه في الجبهة الوطنية التقدمية، عمم التفكير الماركسي البائس، ومنه ما تمّ ترديده ولعقود على ألسنة يساريين من عيار: (منهج ماركس كليّ القدرة لأنه صحيح، وصحيح لأنه كلي القدرة). وكانت صحيفة نضال الشعب تنشر نعوات مناضلين أمضوا خمسين عاماً وهم يقارعون الإمبريالية والاستعمار. لكن القدر منعهم من متابعة النضال فماتوا.
على الأرض وفي معكرته الصفرية مع النظام عمّم تنظيم الطليعة المقاتلة وحزبه الأم "الإخوان المسلمين" تفكير (النظام العلوي) و"الشعب السنّي". ويكفي أن تقرؤوا كتاب أيمن أحمد الشربجي (على ثرى دمشق) لتتعرفوا على كامل القاموس السياسي الإخواني. وعندما كانت دبابات النظام الأسدي تسحق جثث البشر في حماة، كان ملايين الطلاب يرددون الشعار في عموم المدارس السورية وهو (القضاء على الرجعية وعصابة الإخوان المسلمين العميلة).
حزب البعث الحاكم حتى اللحظة، ما زال يعمّم مفاهيم المؤامرات الكونية ومصطلحات الصمود والتصدي وقهر القوى الكبرى. وتغيير خرائط المنطقة والعالم، أما بشار الأسد فما زال يحتقر الإعلام الممول من قبله، ويتابع الإعلام العربي والدولي ليعرف ما يحدث في سوريا.
ومنذ وصول حافظ الأسد إلى الحكم عمّم فكرة التوريث، حيث بدأها بتوريث الوظيفة، فإن مات الموظف الأب، كان يحق لأحد أولاده وراثة الوظيفة. وهذه الحالة ما تزال سارية المفعول حتى تاريخه. توريث الوظائف، ضباط وعائلاتهم يعملون في الثكنة العسكرية نفسها لذلك كان هناك موظفون متوارثون في قطاعات معينة، ففي الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون كانت وما زالت أسرٌ بكاملها موظفة في هذا المكان، أي الجدّ، ثم الابن وزوجته وأحفاده. هل نعطيكم أمثلة؟
أذكر خلال خدمتي الإلزامية أنّ العديد من الضباط كانوا قد وظّفوا نساءهم وبناتهم في الرحبة أو الكلية نفسها حيث يعمل الضابط الأب.
أحزاب الجبهة الوطنية نهجت النهج نفسه، فمثلاً مات خالد بكداش وهو الأمين العام للحزب الشيوعي السوري وكان قد رفض التنازل عن منصب الأمين العام قبل وفاته بسنوات رغم مرضه، وحين مات ورثته زوجته وصال بكداش وحالياً ورثها ابنه عمار بكداش.
كان الوعي الجمعي يردد من دون تفكير مفاهيم ومصطلحات، أغلبيتها قائمة على الكراهية، فبينما كان السوري يعمل في دول الخليج العربي ليؤمن مستقبل أبنائه في سوريا، كان البعثيون يعممون العداء لهذه الدول عبر استخدام مفاهيم عنصرية، من نوع "البترودولار". والرجعية العربية وغيرها من مصطلحات مشغولة قلباً وقالباً من نسيج الكراهية. حتى مصر لم تنجُ من تعميم مفاهيم الكراهية، فالمصري وبحسب قاموس الكراهية البعثي، هو "شخص بلاكرامة، يعمل أي شي من أجل مصلحته".
هناك كتلة بشرية سورية تريد فقط العيش ومتابعة الحياة بطريقة عادية، وهؤلاء وجدوا في احتجاجات الناس السلمية في البدايات في منتصف آذار مصدراً للخوف والقلق، فابتعدوا عن الجميع.
من جهته حزب الله وملحقاته من مناصرين يساريين وقوميين وإسلاميين عمموا فكرة المقاومة وطالب الناس قسراً بتقديسها، وصُرفت مليارات لشراء ذمم الناس ورشوتهم وتشغيلهم، وكان المطلوب أن يفكر الجميع بطريقة واحدة وأن يرددوا الشعارات والقصائد نفسها، حيث تقديس التراب، وتجاهل وإلغاء أي حقوق للإنسان.
وفي سياق هذه التفاصيل كان هناك كتلة بشرية سورية تريد فقط العيش ومتابعة الحياة بطريقة عادية، وهؤلاء وجدوا في احتجاجات الناس السلمية في البدايات في منتصف آذار مصدراً للخوف والقلق، فابتعدوا عن الجميع. هؤلاء كما يتم وصفهم في علم السياسة الكتلة المتأرجحة. وكان المطلوب فهمهم واستيعابهم. وفي حين عمل النظام بحرفية على تخويفهم ومتابعة تدجينهم، كان عموم المعارضين يصفونهم بالرماديين ويقومون باستعدائهم، ويكفي حتى الآن أن تشاهد بعض الكتابات لأسماء محسوبة على المعارضة لتعرف درجة الكراهية ضدّ هذه الكتلة البشرية السورية.
كانت الغاية أن يبقى الرئيس للأبد
كانت الغاية من كل هذا أن يبقى الرئيس للأبد، والأمين العام للحزب والمرشد وملحقاتهم من تسميات مختلفة للقيادات، للأبد أيضاً. والغاية النهائية قتل أي فكر نقدي وقتل أي مبادرة شخصية أو اجتماعية أو سياسية. كانت الغاية أن يبقى الوطن عبارة عن مزرعة، مدجنة، قفص كبير.
الخلاصة أنه حتى الآن ما زال عدد الخدم الحاليين الذين يقدّمون وعاء التبول للرئيس الملك أو للأمين العام أو للمرشد كبيراً جداً. خدم تناسلوا في عموم الإدارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خدم مخلصون لعبادة الفرد.
من يُقنع هؤلاء بأن البشرية قد اخترعت التواليت منذ زمن طويل!