إذا كانت التجارب أنجح الوسائل لتصحيح الأخطاء عند من يقرؤون ماضيهم بروح نقدية للارتقاء بمستقبلهم إلى الأفضل وتجديد الهمم، فإن لنا نحن السوريين تجربة واسعة ومتعرجة وعميقة، زودتنا بطاقة للخروج من أوهام الماضي ومراهناته المرتجلة ومن وعي دون المستوى المطلوب، لمن فشلوا في تحمّل مسؤولية التغيير والتقدم في بناء دولة حديثة تقوم على هوية وطنية جامعة، دولة المواطنة لا دولة المتسلطين والطغاة.
الوهم والرهان الأيديولوجي
منذ الاستقلال حتى انتهاء الحرب الباردة، كنا قد ابتلعنا المزيد من الوهم الأيديولوجي، عبر التثقيف السياسي النظري والحزبي وحزمة من الشعارات الخلبية والمرتجلة والبعيدة عن الحكمة والعقلانية؛ وكان منها وليس أهمها مناصرتنا للنظام الجمهوري على الملكي، من دون أن نولي أهمية للبنية الأخلاقية للنخب الحاكمة ومدى تغييبها للحرية والعدالة وتسلطها على المواطن و المجتمع. وعبرها جرى تصنيف الأنظمة (أسود ملكي رجعي وأبيض جمهوري تقدمي أو ليبرالي) وأدرجت في سياق ذلك التصنيف الأنظمة الجمهورية في سوريا ومصر والعراق، وبناء عليه أوعز لنا السوفييت بعد هزيمة حزيران 1967 بمقولة (نعم خسرنا الحرب ولكن الأنظمة التقدمية صمدت ولم تسقط) وكان هذا يعني أن هذه الأنظمة فوق الوطن وفوق المحاسبة، حتى بعد أن فشلت في حماية حدودها وتأمين الاستقرار والتقدم والرفعة لشعبها.
نعم لقد نفخوا جيلنا التالي لجيل الاستقلال بشعارات فارغة من محتوياتها (القومية والتحررية الاجتماعية) وفي العدالة والمساواة وغيرها، وساقونا بخديعتهم وزيف مقولاتهم خارج مفاضلة الأنظمة وفقاً لمقدار ما تقدمه من خدمات للشعب ومدى سعيها للارتقاء به, ولذا ظل هتافنا وحماسنا لثقافة البندقية من دون التدقيق بخصائص من يحملها وكيف يوجهها ومدى خطورتها على مستقبل حياتنا كشعب، ليست الحروب إلا خياراً استثنائيا وإحدى ضروراته العارضة، أمام خياره الاستراتيجي في السلم والاستقرار والتقدم ورفاهية الإنسان ورقيه.
هكذا قادتنا الشعارات الرنانة، التي رفعت باسم الحرية والتحرر والعدالة، إلى واقع مرير إذ تم استغلال تلك القيم من قبل من استعبدوا الشعوب تحت شعارات مزيفة. لقد انحازت فئات شعبية كبيرة إلى حزب البعث وسارت خلف شعاراته التحررية البراقة، ومن نفس المنطلق، تم استبدال المقاومة الوطنية في لبنان عام 1982 بمقاومة طائفية تمثلت في حزب الله، الذي فرض نفسه كأمر واقع. وما زال بعضهم غير قادر على رؤية حقيقة هذا الحزب الذي يدعي خوض "حرب المشاغلة والإسناد" لغزة، في حين يدفع المدنيون اللبنانيون وفقراء طائفته الثمن من دمائهم، ويتكبد لبنان كدولة ومجتمع خسائر فادحة، سواء على مستوى الكيان أو المكانة الحضارية التي جعلت لبنان يوماً ما يُلقب بـ"سويسرا الشرق".
رهن حزب الله لبنان بمصالحه وأجنداته الخارجية، متكئاً على قوته العسكرية وعصبيته الطائفية الموالية لإيران. رغم خسارته لنخبة من قادته وتعرضه لضربات إسرائيلية مركزة، لا يزال الحزب يعتمد على ترسانته الصاروخية ويستخدمها للتأثير على الداخل اللبناني. يرى في إسقاط الدولة ودفع البلاد نحو الفوضى والفساد وسيلة لتحقيق سيطرته الكاملة على مقدرات لبنان، متجاهلاً تأثير هذا النهج على استقرار البلد ومستقبله.
الكشف عن الحقائق
لقد أدركنا مبكرا أن الوحدة والمقاومة من دون الحرية والديمقراطية مسار محكوم بالفشل وأن قوة البلاد ومنعتها لا ترتبطان باتساع مساحة البلاد ولا بكثرة عدد السكان، إنما بصحة التوجه الاستراتيحي والتنموي واستشراف المستقبل، وتسخير كل طاقات البلاد البشرية والمادية والمعنوية للوصول إلى الهدف الذي يتضمن أولاً وأخيرا بناء الإنسان وتوفير النخب المؤهلة مهنياً وسياسيا وأخلاقياً للقيادة وتحقيق التنمية وصولاً إلى تكريس مفهوم الدولة (الأمة ) لا الدولة (القطر) المعطل تنموياً، في انتظار أن تجره قاطرة الوحدة الموهومة المنتظرة .
وبفضل ميخائيل غورباتشوف عبر (البيروسترويك والكلاسنست) أدركنا كم الوهم الذي حشوا به أدمغتنا، حول الاتحاد السوفييتي وجنة الاشتراكية، ولما تكشّف ذاك العملاق المواجه للإمبريالية والمراهن على مقولة (الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية) عن جبل منخور من داخله وكل ما فيه آيل للسقوط، وجدنا أنفسنا خارج مرحلة الحرب الباردة وبدأت مرحلة جديدة، تخلينا فيها عن شعارات مخادعة واتجهنا إلى تبني الديمقراطية الليبرالية نهجا للخلاص ولبناء التقدم وكرامة الإنسان، بوصفه القيمة الأعلى في الطبيعة والكون.
ما بعد تدمير برج التجارة العالمي
بعد تدمير برجي التجارة في أميركا عام 2001 واستشراء الإرهاب العالمي بصيغته الإسلامية وما تلاه من غزو أميركي لأفغانستان 2001 ثم العراق 2003 وارتفاع نبرة التهديد الأميركي لسوريا، بسبب العبث الصبياني لبشار الأسد بما سماه مقاومة الأميركان في العراق حينذاك، وما تلاه من اغتيال رفيق الحريري 2005 وإخراج القوات السورية من لبنان، طرحت وثيقة إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي في 16/10/2005 ضرورة القطع مع الاستبداد وطالبت بالتغيير الديمقراطي السلمي التدريجي وحملت النظام مسؤولية الأخطار المحدقة بسوريا. وتكشفت عبر تسارع الأحداث العالمية والمحلية زيف الدعاية للوريث الإصلاحي الشاب، الذي قام باعتقال رموز ربيع دمشق 2001 ثم اعتقل كوادر إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي 2007، حين اتضح له أن الانتفاضة المناهضة للاستبداد وشيكة، سارع إلى إغلاق منافذ البلاد على فساده متقويّاً بالطائفة، حتى إذا انطلقت ثورة الحرية والكرامة 2011 نفذ الوريث محرقته بمساندة أجهزته الأمنية وحماته الخارجيين، وتخلّى عن المناطق التي خرجت من يده، مكتفيا بما سماه (سورية المفيدة) و(سوريا المتجانسة).
هذا ما أسسه حافظ الأسد لوريثه
لم يفلح نظام الأسد بالحصول على الشرعية، عبر تبنيه الزائف لقضايا عربية وإسلامية ذات قدسية خاصة كالقضية الفلسطينية، بل أضاف إلى رصيده مزيدا من الفشل أمام العدو والفشل في ربط الوحدة العربية بتحرير فلسطين ومقولة الوقوف في وجه مؤامرات الاستعمار والإمبريالية، ولما كسدت تجارته بالقضية الفلسطينية والوحدة والتحرير، ذهب إلى التآمر على الفلسطينيين لإخضاعهم لإرادته وارتكب مجزرة تل الزعتر بتدبيره ومشاركته وأسهم بتداعيات كبرى في لبنان في أثناء الحرب الأهلية، انتهت بصفقة حفر الباطن التي مكنه الأميركان عبرها من التصرف بلبنان مقابل مشاركة قواته في تحرير الكويت من صدام حسين. وهو ما جرّ مزيدا من الويلات وإحداها وأمرّها السماح للإيرانيين بإنشاء حزب الله على حساب مقاومة القوى الوطنية اللبنانية الباسلة واستمر بالعبث في الساحة اللبنانية حتى أجهض توافق (الطائف) واختل التوازن فدخل لبنان في التخبط والفوضى تحت هيمنة سلاح تابع لولاية الفقيه الإيراني.
تهدمت العواصم وصمدت عمان
حفز انتصار العراق على إيران طموحات صدام حسين الإمبراطورية، فغزا الكويت ليزيد من إمكاناته على بناء قوة إقليمية بارزة، وداس بذلك على الخط الأحمر الذي يشكل خطورة على إسرائيل وجيرانها، فسارعت أميركا وحلفاؤها إلى غزوه، وأعادت العراق إلى ما دون الصفر عسكريا وسياسيا وتنمويا وأسلمته ضعيفا مكبل اليدين إلى إيران. وفي هذه المتوالية من السقوط والتخبط الذي يشمل ثلاث دول أساسية في المنطقة هي سوريا ولبنان والعراق، ظل الأردن متوازنا ومعتدلاً واستطاع بحكمته، أن يستوعب حالة لجوء سوري غير مسبوق، وغصت أسواقه وعمالته بالفعاليات السورية التي اندمجت في حياته اليومية والعامة، وبدا لي أن عمان باعتدالها وبحفاظها على استقرارها ومسحتها الحضارية، استطاعت أن تمتص خراب دمشق وبغداد وبيروت ومازالت تتهيأ لمتابعة الأدوار التي انقطعت في هذه العواصم، سواء في الثقافة والفنون أو في الأمن والاستقرار والحيوية المتجددة. ومثلما كان ملكها عبدالله الثاني أول من أطلق مصطلح الهلال الشيعي وحذر من مخاطره، مازال هو و عاصمته، يتصدى لهذا النفوذ ومؤامراته، جاعلاً من عمان مرجعا لأبناء المنطقة العربية المحتلة من الإيرانيين وذيولهم و مقراً يلم شمل المشردين السوريين مع أهاليهم المنتشرين في شتى أصقاع الدنيا.