في أواخر نيسان/إبريل المنصرم، نشر مركز حرمون للدراسات المعاصرة، وثيقة بعنوان "مشروع وثيقة توافقات وطنية"، حملت بين طياتها جملة من التوافقات الوطنية التي عمل عليها المركز طوال 13 شهرًا وبمعدل جلستين شهريًا، وبحضور 186 من النخبة السورية التخصصية والفاعلة في الملف السوري والموزعة على كامل الجغرافية السورية. الوثيقة طرحت جملة من القضايا التي تستهدف، مستقبل سورية "الأصلح" والممكن التي تمثل خلاصة التوافقات الوطنية بين المشاركين خلال عمل المشروع.
النقاط المهمة التي ناقشتها الوثيقة تتناول عدداً من القضايا الرئيسية المتعلقة بالشأن السوري: القواعد الدستورية المحصنة التي "تحتاجها" سوريا، نظام الحكم المناسب، شكل الدولة "الأنسب"، علمانية الدولة، المواطنة المتساوية، العدالة الانتقالية، الحقوق والحريات، معالجة الأزمة الطائفية، معالجة الأزمة القومية، التعليم والتربية، النموذج الاقتصادي والاجتماعي، ومنظمات المجتمع المدني السورية.
القراءة المتمعنة لمضامين هذه النقاط تشير بالمبدأ إلى الجدية والحرص والمسؤولية في الوصول الى توافقات وطنية حول قضايا سورية مستقبلية لطالما مثلت خلافًا سياسيًا عريضًا في الشأن السوري، سواء بين السلطة القائمة لليوم في سوريا بدستورها ونظام حكمها وتفاصيلها القانونية والإجرائية والتعليمية.. في مقابل أهداف وتطلعات المعارضة السورية، أو تلك الخلافات الطارئة بين مختلف الشرائح السورية السياسية المعارضة والأيديولوجية المتنوعة والطائفية والقومية خلال السنوات المنصرمة.
مثلت الوثيقة حوار نخبة سورية تتفق غالبًا فيما بينها على الأطر السياسية الفكرية العامة، ومستوى الاختلاف بينها يكاد يكون مضمحلًا أو استثناء
قراءة الوثيقة في متنها تعبر عن جملة الأهداف والرؤى الفكرية والسياسية الواضحة في المستقبل السوري، والتي تمثل خلاصة فكرية سياسية للتجارب العالمية في المعاصرة والديموقراطية والحقوق المدنية والمواطنة المتساوية والبحث في نظام الحكم والمبادئ الدستورية العاصمة عن اختراقه من قبل أي سلطة حاكمة. أضف للاتفاق المهم والضروري حول اللامركزية الديموقراطية الموسعة وأهميتها المحورية في مستقبل سوريا والدور المهم والضروري للمجتمع المدني في مستقبل بناء الدولة السورية وردم الهوة بين السلطة السياسية والمجتمع الأهلي. وتبدو هذه النقاط محط اهتمام من العاملين في الشأن السوري على مستوى نخبته السياسية الفكرية بكل جلسة أو منتدى حواري للبحث في تطلعات السوريين.
لكن، رغم هذه الإيجابيات والمعززات الوطنية التوافقية المهمة للمستقبل، ثمة ما غاب عن الوثيقة:
- مثلت الوثيقة حوار نخبة سورية تتفق غالبًا فيما بينها على الأطر السياسية الفكرية العامة، ومستوى الاختلاف بينها يكاد يكون مضمحلًا أو استثناء.
- غاب عن الحضور ممثلون عن المجتمع السوري بتنوعه الأهلي والديني والقومي.
- كما وغاب عن الحضور الفعاليات الاقتصادية والقوى المادية الممثلة للواقع الاقتصادي السوري.
- غياب واضح للقوى والفعاليات السورية المؤثرة في الواقع المحلي اليوم.
- غاب عن الوثيقة خلاصة عامة للإجراءات الدولية، بملفاتها وقراراتها وتباين مصالحها، حول سوريا، والتي تمثل مستوى خطراً جدًا على سوريا والسوريين.
- اكتفت الوثيقة بالتوصيف دون سؤال الكيف والطريقة! فكان الأكثر بروزًا غياب مناقشة الواقع الحالي القائم في سوريا وكيفية الانتقال للمستقبل المفترض وفرصه وممكناته ومستوى خطورة و/أو سهولة طرقة وتوصيفه.
فإن كانت الوثيقة قد أبرزت في متنها تحميل مسؤولية الواقع الحالي الكارثي للسلطة القمعية القائمة فيه بشكل أساسي، مع مسؤولية متعددة الأوجه للمعارضة السياسية السورية، وتغول العنف وتمدد الشروخ الوطنية إلى دينية وقومية ما يهدد الواقع السوري بالتقسيم والتجزئة! إلا أن الوثيقة لم تعط أي مساحة حوارية واضحة لدور المغيبين عن الوثيقة، مبررة ذلك بأن الوثيقة تستهدف توعية السوريين بضرورة العمل وفق مقتضيات هذه التفاهمات والتوافقات المعلنة، وبمخاطر غيابها عن مستقبلهم، كما والعمل على نشر ثقافة دستورية للمبادئ المحصنة لمستقبل سوريا ودراسات متخصصة فيها.
في سياق نقدي أكثر تحديدًا، وفي خضم نقاش النظام الأنسب لسوريا، يراعي الخصوصية السورية تم طرح النظام المختلط/ شبه الرئاسي الذي يجنب البلاد عيوب النظامين البرلماني والرئاسي، على أن يبقى ضروريًا بشكل خاص في سنوات الانتقال والتعافي، ريثما تترسخ الحياة السياسية والتقاليد الديمقراطية والمؤسسات القادرة على ضمان الاستقرار، كطرح نظري حواري. لكن أتت الجملة التي تليها مثار جدل واسع والتي مفادها: "يحتاج الأمر إلى اجتراح صياغة دستورية مفصلة على القياس السوري، تقوم على فهم عميق للواقع السوري من جانب، وللتجارب الدستورية العالمية المماثلة من جانب آخر". ما يعني بالضرورة أن كل التطلعات الأولى حول مستقبل سوريا التي ناقشتها الوثيقة دستوريًا وحقوقيًا بشكل تفصيلي، لم تستطع الوصول إلى وضع محددات عامة تفيد الحالة السورية. فإن كان ثمة مثلب على الوثيقة فهو هذه الجملة التي تشير فعليًا إلى نقاش واقع مفترض مستقبلي دون الخوض في واقع الحاضر السوري. أضف لغياب واضح لنقاش الفاعلين في الواقع السوري الحالي وتطلعاتهم وإمكانية توافقهم بالحدود الدنيا على الممكن المستقبلي. والسؤال المطروح هنا: ما دام على السوريين اجتراح دستورهم المستقبلي المتضمن حقوقهم وحرياتهم ونظام حكمهم، فما الجدوى من مشروع التوافقات الحالية؟ وهل يكتفي دور النخبة في وضع توصيات متعارف عليها في الفكر السياسي العام يحملها غالبية النخبة السورية، دون البحث في معترك الواقع الحالي وتبايناته المحلية اجتماعيًا ودينيًا وسياسيًا؟
تبدو الحالة السورية لليوم حالة مأزومة لدرجة عدمية الجدوى في حلولها الراهنة، أو التعبير المجازي المستخدم في هكذا شأن، "اجتراح الحلول الممكنة"، العبارة الإشكالية التي وردت في الوثيقة، وتبدو هي الأصدق في توصيف الحالة السورية الراهنة، فيما المستقبل السوري بيد السوريين أنفسهم الحريصين على سوريتهم وعمقهم الوطني. ونقصد بالسوريين هنا هي الحوامل والروافع المجتمعية والاقتصادية والثقافية للوطنية السورية المغيبة لليوم عن الساحة السياسية العامة، وذلك لشدة التباين الذي فرضته طريقة المعارضات السورية ونخبها! وهو ما كان يعول العمل عليه من قبل مراكز الدراسات السورية الملقاة على عاتقها الدخول في العمق المجتمعي بإشكالاته واختلافاته ومظالمه، بحيث تشكل روافع محلية للأفكار العصرية المأمولة.
ما فائدة التوافقات المستقبلية ما لم تبن على معطيات مدققة وممكنات قابلة للعمل عليها تفيد في الحلول المفترضة؟
يبدو أن حصيلة التوافقات الوطنية حول أية قضية سورية حالية في طرق حلولها السياسية صعبة المنال، خاصة وأن الملف السوري بات عقدة متداخلة المتحولات يصعب العمل عليها بجهة وحيدة أو منبر وحيد. وإلى أي مدى يمكن النظر للمسألة السورية بهذه الطريقة؟ وما فائدة التوافقات المستقبلية ما لم تبن على معطيات مدققة وممكنات قابلة للعمل عليها تفيد في الحلول المفترضة؟ وهذه مهمة السوريين في مراكز الدراسات والأبحاث. والتي طالما تمت دراستها في أبحاث ودراسات مفردة، كان يأمل السوريون أن تكون ورشة عمل التوافقات الوطنية هذه تصب في هذا الاتجاه للمشاركة الفاعلة والمسؤولة في الحل السوري، كبديل منهجي لتشظي الحالة السياسية أيديولوجيًا ونفعيًا. وإن كان لمركز حرمون أن يطرح هذه الوثيقة للرأي والنقد، فعليه، والمراكز السورية البحثية، إعادة تكرار المحاولة بهدف استحضار الواقع اليوم والبحث في حلوله، بدل الهروب للأمام لمستقبل افتراضي، ومن ثم إعادة الفرض للسوريين المغلوب على أمرهم باجتراح حلول مستقبلية لدستورهم وتعاقدهم العام، فما الداعي إذا لهذه الورشة أن تدرس الأنسب والأصلح دون سؤال الكيف والطريقة والممكن؟ ويبدو أنه سؤال السوريين المتكرر لليوم دون أن تقدم لهم إجابة واضحة بعد سوى أن هذا ما تحتاجونه لمستقبلكم، أما سؤال الحاضر فكفاية نفس واجتهاد فرضي!