"كأنهم نيام" جملة قالها مراسل الجزيرة ماجد عبد الهادي في مرثاة أطفال الغوطة الذين قتلوا بالكيماوي، كملائكة دهمتهم ريح طيبة فناموا باسمين - لولا اختلاج بسيط، اختناق، توسع في الحدقة، ورغوة من فم صغير رسمه الخالق على هيئة روح خفيفة، وهيض في القلب كل وجع البشرية منذ آدم، منذ قابيل وهابيل؛ ولا غراب في هذا العالم يواري سوءَته، وبقيت تلك المقولة في سفر المراثي كإحدى معلقات الوجع العربي على جدران قلوبنا إذ لا جدران بقيت؛ حتى إني كلما وجدت أطفالي نياما حدقت وقلت في نفسي" كأنهم.. موتى" لأدرك الفرق بين الحالتين، لكأن الأرض مشطورة بين عالمين واحد صغير هو نحن ويقبع في رقعةٍ شرق المتوسط اسمها سوريا، والثاني كرة أرضية تدور بأممها وشعوبها وقطعان رعاة الخراب المضمخ بدمنا وكلما أمعن في قتلنا نهضنا وكأن ليس للسوري إلا قبض ريح وأفق خفيض للصرخات، وقلق منظمات الأمم.
هي لم تكن مرثية بقدر ما كانت كلمة طبيب يخبرك أن قلب مريضك "أمك أو أبوك، طفلك أو زوجتك" قد توقف على جهاز الإنعاش وما عادت تنفع كل الأدوية
ثم جاءت رثائية الإعلامي السوري محمد الفيصل "وانقطع الأنين.." وهو يصور الأنين المتسرب من تحت الأنقاض؛ بكل ما يحمل من وجع الروح وعجزها عن تجاوز أطنان الركام فوق الضحايا الأحياء ونداءات الاستغاثة، على أنه كان شعاع أمل بوجود أحياء قد يتمكنون من العيش لأيام أخرى. هي لم تكن مرثية بقدر ما كانت كلمة طبيب يخبرك أن قلب مريضك "أمك أو أبوك، طفلك أو زوجتك" قد توقف على جهاز الإنعاش وما عادت تنفع كل الأدوية، أو أن مفقودك لم يعد فلا تنتظر وابدأ مراسيم الجنازة ولا جُنّازَ للحقيقة سوى على أكتافنا كعين الشمس، ولئلا يتبلد الإحساس بين سكان المعمورتين؛ معمورة الأرض البعيدة الغارقة بسباتها وأمانها وعهرها، ومعمورة الخراب –بلادنا- وهي تشيع مدنا سقطت على أهلها تحت القصف فافترشوا الأرض وقيعان بحار اللجوء والشتات، وبعد أن مادت بنا الأرض ولم نمت جميعا، وبذل كل منا جهده في الإغاثة تعالوا نبكي جميعا لئلا يتبلد الإحساس، ولنبك قهرنا أمام أطفالنا وزوجاتنا والأصدقاء، ولنكتب مراثينا علها تخلف في جيل آخر ذكرى حياة وسبل التزام بمن قضوا، وليعرف أطفالنا عهر العالم ولا ينذرون أرواحهم لأفق غير ذاك الذي حلقت فيه أرواح من ماتوا بلا وصية أو عزاء، ويبصقون في وجه هذا العالم الصفيق الذي حول البلاد من سجن كبير إلى خيمة عزاء شاسعة.
بين وجعنا وإحساسهم بون شاسع وذهول كبير؛ لم يجدوا وقتا للذهول فحملناه نحن وكما قال محمود درويش "الموت لا يوجع الموتى لكنه يوجع الأحياء"، صراخنا ودعاؤنا يدق باب السماء وهم هناك، هناك هادئون لو التفتوا لنا لقالوا أرواحنا أعلى من سمائكم.
بوجع كبير وذهول يصل عمق مداه؛ لكن بحزن أقل أو لم ندرك عمقه حتى اللحظة رغم كل شيء، لكن بحزن أقل فقط لأن الله اختار عائلات بكاملها وبتنا نحمل عبء القليل من اليتامى، أقل بكثير مما خلفته حروب الطغاة. لكنا تعلمنا الفرق بين شق في الباب أو ثقب صغير في جدار الزنزانة العفنة قد يولد فيك روحا تشهق علو السماء وبين شق يوصل أنين أهلك تحت الركام، لست قادرا على ثقب الأرض، ولا قادرا على أن تشق صدر السماء، يقول الروائي ميلان كونديرا "إن الإنسان يكمن فيه -وجهه أو جلده- أرشيف البشرية من أول الخلق حتى الآن"، والآن صار السوري -قلبه وروحه- يحمل تاريخ النكبات وأراشيف المآسي وشاهدا على خذلان بشرية تسير بعقلية إنسان الكهوف وتتعالى في عمران يسير نحو الهاوية.
أيها الموت لم نعد نكترث عرفناك عرفناك وتعال رويدا رويدا ولا تخبر أحدا عن خطوتك القادمة أو وقعك الآتي فنحن الحياة وعشاقها الفانون
هناك نجت دمية من بين الأنقاض خرجت كما هي مغبرة قليلا دون مزق، والطفلة التي بقيت تحت الركام لم تجد من ينتشلها وقد تخرج قطعا بعد أيام. لم نر دماء كثيرة فاضت الأرواح بلا دم وبقيت الصورة صامتة بلا ألوان، ولعلي في لحظة أتجاوز فن السرد وشطح اللغة لأن الموت مهما تنكر لا يأتي جميلا ولا يراه الهارب أنيقا بل وحشا ينهش قلبه، ولا يبقى سوى الرتوش، نظارة الأب، فروته التي دفأتنا ذات رحيل، عكازة الأم، عقد العقيق الأحمر، والمِنحَر المشرب بالبخور الهندي، كلهن متون للوجع إذ يتلو المحنة، لكنها كلها تغيب في الغبار الذي عفر دمية الطفل تحت الركام. والموت لوحة لم تكتمل يعلمنا الله إياها قطعا مبعثرة نحن شظاياها الموزعة في كل بقاع الأرض، كل بقعة هناك موت ونحن نرمي بنرد أرواحنا لترسم الأقدار للإنسان لوحة الموت من أشلائنا.
أيها الموت لم نعد نكترث عرفناك عرفناك وتعال رويدا رويدا ولا تخبر أحدا عن خطوتك القادمة أو وقعك الآتي فنحن الحياة وعشاقها الفانون، يا موت روضناك روضناك لم يعد لك هذا الوقع المخيف فاخترعت أشكالا ودروبا جديدة. وأنا إذ أعد لأرثي البلاد شجرا، قلبا من الخرائب، سبع أبجديات ولم أبلغ ظفر الطفلة تحت أنقاض جرحك المفتوح ولم أنجز ترنيمة لجُنّازِ البلاد اليتيمة، فانهض أيها السوري واعلم أنك وحدك.
وحيد أنت ولا تنتظر أحدا سوى الله ثم أنت، ولا تعرض صور الضحايا للآخرين فلنتوازعها بيننا مثل نداءات الاستغاثة في هواتفنا –بلابل الموت البطيء- علها تصل لمغيث قريب، لا تعرض صور الموت ليؤازرك أحد لأنك " وحيد مثل لوحة لـ فان كوخ تحت النظرة الغبية للسياح، مثل قمر لا يراه أحد".