ليس المقصود هنا البرنامج الإذاعي الذي أطلقه العراقي الراحل الإشكالي يونس بحري في العام 1939 في إذاعة برلين العربية التي كانت تبث من ألمانيا وموجهة إلى أقطار الوطن العربي وتحث على التحرر من الاستعمارين الفرنسي والبريطاني، وعلى موجتها كان يطلق خطبه الرنانة وينهال بالشتائم على بعض الملوك والرؤساء العرب. بل إنه شارع زونن ألليه في حي نويكولن البرليني الأشهر من أن يُعرّف، ذاك الشارع الذي يمتد على مسافة كيلومترين وربما أكثر مع بعض الفروع المنفلتة منه منذ أن تخرج من بوابة المحطة الواقعة في ساحة هرمان شتراسه، فيراودك إحساس وأنت تمشي في ذلك الشارع أنك تمشي في أحد شوارع دمشق أو حلب أو بيروت أو أي من تلك المدن ذات الهوية التاريخية الواحدة.
لقد نما هذا الشارع بفضائه اللافت بالتدريج على مدى عدة عقود، لكن التحول السريع الذي وضع اللمسات الأخيرة على هويته الحالية كان بعد موجة اللجوء السوري خاصة الكبرى في العام 2015.
لهذا الشارع قانونه الخاص غير المعلن، لكنه يضبط الإيقاع العام للحياة بأدق تفاصيلها، ويتحكم في مفاصلها مثل حكومات عميقة لدولنا الأمنية المتسلطة. وإذا كانت اللغة العربية تحتل الآرمات والإعلانات والدعايات، فإنها ليست المؤشر الوحيد على هوية يتمسك أصحابها بها ويحملونها على ظهورهم وفي قلوبهم، بل يحنون عليها بشراسة ضد الآخر من دون قبول أي مبادرة نحو الانفتاح أو الاندماج، فإن في السر والعلن هناك حياة كاملة محمولة عبر طريق الآلام والتغريبة بكل عجرها وبجرها تحتل الفضاء العام لهذا الشارع، ويعيش سكانه ومرتادوه من العرب بنفس العقلية التي كانت في بلدانهم، بل يمارسون السلوك ذاته وربما بتشدد أكبر.
تتعدد المحلات وتتنوع، ومعظمها تترأسه يافطة أو آرمة مكتوبة باللغة العربية فيها إحياء لأسماء بعض المدن السورية
تتعدد المحلات وتتنوع، ومعظمها تترأسه يافطة أو آرمة مكتوبة باللغة العربية فيها إحياء لأسماء بعض المدن السورية كمطعم الشام أو حلويات إدلب الخضراء، وغيرها من أسماء مدن عربية خارج سوريا، أو لشخصيات فنية عربية كمقهى أم كلثوم مثلا أو فيروز، لا مشكلة عند الألمان على ما يبدو، بل إن هناك توجهًا عامًا عندهم نحو التنوع اللغوي الذي يعني التنوع الثقافي، مع الحرص والتشديد على تعلم الألمانية في المقابل من أجل الاندماج في الحياة في ألمانيا، فهم في أماكن عديدة قد يطلبون من الأهل التحدث في البيت مع أطفالهم بلغتهم الأم، أما الألمانية فهم، في دور الحضانة أو المدارس، يتكفلون بها.
هذا الشارع نموذج مصغر عن مدن وبلدان منطقتنا، عبارة عن جماعات أو مجموعات تنتمي إلى دين واحد أو تنحدر من بلد واحد، أو ذات انتماء قومي واحد، لكنهم في الوقت نفسه يعيشون تحت ظلال خيمة أو إرث ثقافي شامل ورثوه في بلدانهم وظلوا يحيونه في دواخلهم، إنها الحياة كما كانت تسير هناك، حيث التاريخ بطيء حدّ السكون، نظام خفي يحكم العلاقات ويحكم إيقاع السوق تحديدًا، نظام لا يمكن رصده لكنه حاضر بقوة له سطوة أكبر من القانون، وأخمن أن السلطات الألمانية تعرف دقائق الأمور لكنها لا تتدخل طالما الأمر لا يتعدى الحيز الجغرافي وطالما أنه محصور في هذه البقعة وأن الأمور تسير بلا مشاكل تكلفها التدخل وتسبب لها المتاعب، وطالما، وهو الأهم، أن هناك نشاطًا اقتصاديًا يصب في المحصلة النهائية في حصالة الضرائب ويؤمن سوق عمل وفرص عمل للعديد من المهاجرين أو اللاجئين الذين فتحت لهم الحكومة الألمانية أبوابها.
وهذا سرّ غير خفي من أسرار نجاح الدولة الألمانية في استمرار قوتها الاقتصادية ورسوخ نظامها السياسي ولو أن هناك تناميا للأصوات الرافضة للهجرة والمناهضة للاجئين وانتقاد للسياسة الحالية، لكن في دولة مثل ألمانيا يوجد حراك سياسي وتداول للسلطة وهناك رأي عام وناخبون يسائلون منتَخبيهم، لذلك فهم يرصدون الواقع باستمرار ويحاولون إيجاد حلول للمشاكل التي تظهر قبل أن تتفاقم، إنه الطب الوقائي المعتمد في كل مجالات الحياة. في هذا الصدد قال مفوض الاندماج والهجرة بمجلس الشيوخ في برلين: إن برلين تعلمت من الماضي، ثم إذا صعبنا على المهاجرين الحاليين دخول سوق العمل فإننا نصنع ديناميتًا وسيعني هذا أننا لم نتعلم من أخطائنا.
لم تكن موجة اللجوء الأخيرة والتي غالبيتها من السوريين هي الأولى إلى ألمانيا التي يقر دستورها بحق اللجوء
لم تكن موجة اللجوء الأخيرة والتي غالبيتها من السوريين هي الأولى إلى ألمانيا التي يقر دستورها بحق اللجوء، إنما سبقتها موجات من مناطقنا المنكوبة، ففي ثمانينات وأوائل تسعينات القرن الماضي وصل عشرات الآلاف من المهاجرين اللبنانيين ومن اللبنانيين من أصول فلسطينية بعد فرارهم من الحرب الأهلية في لبنان، وهم من المؤسسين لحي العرب، الذي كان يعرف قبل اليوم باسم بيروت الصغيرة، في تشكيلته الأولى والتي نمت وتوسعت بعد وصول السوريين حتى وصلت إلى الشكل الحالي، وبقي معظم هؤلاء اللاجئين يعيشون في مجتمع موازٍ للمجتمع الألماني، مجتمع يعيش على إيقاع الأوطان التي غادروها مع فارق وحيد فقط أنهم يعرفون أن في ألمانيا يوجد قانون عندما تصبح التجاوزات علنية فلا بد له أن يتدخل ولا مكان هنا للمحسوبيات أو الانتهاكات، كما يعرفون أن انتهاكهم إياه سيفقدهم فرصة عيش تعتبر بالنسبة للغالبية جنة قياسًا بالأحوال التي عاشوها في أوطانهم الأصلية، أو قياسًا بظروف الحرب الجبارة التي فروا منها. هذا هو الفارق الوحيد، أما ما تبقى فهي حياتهم التي تستنسخ بعضها حتى بالنزعات الفئوية والهوياتية الضيقة، وبالحمولة الثقافية والأعراف والقيم والتقاليد مثلما لو كانت السند الوحيد لهم في بلدان اللجوء، يلوذون بها هروبًا من الإحساس بالغربة والاغتراب ومشاعر الحنين الضاغطة على صدورهم، إنهم يحملون وطنًا على ظهورهم وفي صدورهم، وطنًا هربوه معهم كأيقونة مقدسة أو كتميمة يهابون فك ألغازها.
يبقى السؤال عن المستقبل مطروحًا للنقاش، مستقبل هذه المجموعات التي تعيش ضمن غلافها الخاص في محيط أكبر وأوسع له تجاربه التاريخية ودروسه وعبره وله ركائزه الحالية، ترى هل ستنفتح على هذا المحيط وتكتسب منه ما يساهم في صنع تجاربها الخاصة ويساعد في تفتيت منظوماتها القيمية وإعادة هيكلتها من جديد في عملية بناء تتخلص من خلالها مما يعيق وتحمله من إرث الماضي؟ وهل سيكون لها بصمتها الخاصة في الثقافة الألمانية التي لم تستطع التأثير فيها غير بإشهار بعض أنواع المأكولات التي لاقت استحسانًا لدى الألمان؟ لا يمكن التعويل فقط على التميز أو النجاح للعديد من السوريين في قطاعات مختلفة ابتداء من النجاح في المدارس وصولاً إلى النجاح في المهن أو الأعمال التي يمارسونها، فهذه النجاحات تبقى فردية، والتجارب الفردية لا تصنع فارقًا مؤثرًا.