تسيطر الحزبية بقوة على نظام الثنائية الحزبية كما هو الحال في الولايات المتحدة، وبشكل أقل في بريطانيا، صحيح أن نظام الثنائية الحزبية يضمن الاستقرار للديمقراطية بعيدة المدى حيث ينحصر التداول السلمي على السلطة بين هذين الحزبين لكنه يولد شقاقا ونزاعا حزبيا دائما وتزداد لحظات الولاء الحزبي والانقسام على أساس الانتماء والولاء للحزب على حساب لحظات الانتماء للوطن أو الأمة.
هذا يفسر ولاء الحزب الجمهوري بشكل كبير للرئيس السابق ترامب، فالحزب يرفض إدانته لأن أية إدانة له تعني إدانة للحزب الجمهوري برمته كما يرفض الحزب أية اتهامات له، كما رفض التصويت لصالح عزله من الرئاسة في مرتين عندما كان ترامب في البيت الأبيض، لكن هذا الولاء الجمهوري لترامب ينعكس في شعبية ترامب ضمن قاعدته الانتخابية التي تضمن نجاح مرشحيه في الانتخابات التمهيدية الحزبية وهو مصدر قوة رئيسية لترامب تجعله يمسك بقواعد الحزب والتكلم باسمه حتى ولو خسر الانتخابات الرئاسية عام 2020 ولذلك يقال اليوم في الولايات المتحدة إن ترامب ما زال أقوى رئيس سابق في الولايات المتحدة، حيث من عادة الرؤساء السابقين أن يبقوا صامتين، لكن ترامب ينتقد بشكل يومي إدارة بايدن ويعقد التجمعات الانتخابية الضخمة التي تصل بمرشحين مؤيدين لترامب إلى الانتخابات النصفية التي يفترض أن تجري في شهر تشرين الثاني من هذا العام.
من المؤكد اليوم أن ترامب سيترشح لانتخابات 2024 ويحضر بقوة بوصفه مرشح الحزب الجمهوري حيث لا منافس آخر له اليوم ضمن ساحة الحزب وكل المرشحين المحتملين يخافون من نقده وقاعدته ولذلك يفضلون الصمت على الترشح ضده، وهناك أقلية صغيرة من الحزب الجمهوري تقف ضده من مثل ليز تشيني من ولاية وايومينغ لكنها تخوض معركة شرسة ضد ترامب وضد مؤيديه حتى في ولايتها التي لا يعرف أنها ستفوز فيها أم لا.
يدور جدل كبير بين علماء السياسة الأميركيين اليوم حول مدى قوة المؤسسات الأميركية وصمودها أمام النزعة الشعبوية التي أوصلت ترامب إلى سدة الرئاسة بالسابق، ويحضر السؤال بقوة عند فحص ما يسمى قدرة السلطات الثلاث في المحافظة على توازنها، أو ما يسمى "Checks and Balances".
فالديمقراطية الأميركية التي تعتبر بحق أقدم ديمقراطية قائمة ومستمرة في عالمنا المعاصر تتعرض اليوم لامتحان حقيقي بعد تشكيل ما يسمى لجنة السادس من يناير التي من وظيفتها كشف النقاب عن ما جرى خلال السادس من يناير عام 2021 في الهجوم على مبنى الكونغرس بالعنف لمنع التصديق على نتائج الانتخابات التي جرت في نوفمبر 2020 وأوصلت بايدن إلى البيت الأبيض.
يدور جدل كبير بين علماء السياسة الأميركيين اليوم حول مدى قوة المؤسسات الأميركية وصمودها أمام النزعة الشعبوية التي أوصلت ترامب إلى سدة الرئاسة بالسابق
لقد شكل ترامب بالنسبة للكثيرين تهديداً للتوازن بين هذه السلطات، وفوق ذلك تجاوز ترامب الكثير من القواعد الأدبية والأخلاقية التي سبقه بها المرشحون إلى سباق البيت الأبيض، أولها الكشف عن سجله الضريبي كي لا يكون هناك أي تضارب في المصالح بين موقعه الذي سوف يتبوأه وبين أعماله السابقة، وقد رفض القيام بذلك خلال الحملة الانتخابية وحتى بعد فوزه بالرئاسة، كما استخدم لغة عنصرية تجاه الأميركيين من أصل لاتيني والمسلمين والنساء وغيرهم، ورغم ذلك كله تمكن من الفوز.
ولذلك يحضر في أذهان علماء السياسة الأميركيين اليوم الكثير من الأمثلة عن الصعود الشعبوي للقادة ومن ثم تغيير قواعد اللعب للاستمرار في الحكم لفترات غير محدودة، والسؤال هنا هو مدى قدرة المؤسسات الأميركية على المقاومة ومنع ترامب من تغيير هذه القواعد التي هي فخر الديمقراطية الأميركية.
فقد كشفت التحقيقات أن ترامب نفسه متورط في التحريض على العنف وأراد من مؤيديه الوصول إلى البيت الأبيض من أجل منع المصادقة على نتائج الانتخابات حتى ولو كان ذلك بالعنف.
يعتبر المفكر دارين أسيموغلو صاحب كتاب "لماذا تنهار الأمم" أن المؤسسات الأميركية الحديثة ليست مستعدة لمقاومة صعود رجل قوي وشعبوي مثل ترامب، كما أن الضوابط والتوازنات الأميركية ليست قوية كما يعتقد الأميركيون، أما فوكوياما صاحب كتاب نهاية التاريخ، فيعتقد أنه من الصعب جداً على ترامب السيطرة على الحزب الجمهوري رغم أنه فاز بترشيحه للرئاسة كما أنه سيعاني صعوبات هائلة في السيطرة على السلطة التنفيذية، كما يؤكد فوكوياما أن النظام الفيدرالي الأميركي سيعيق الكثير من طموحات ترامب. فهذا النظام وكما صممه الآباء المؤسسون للولايات المتحدة قصدوا منه بشكل كبير توزيع السلطة وتفتيتها لمنع صعود الرجل القوي بشكل مطلق، وبالتالي هو مصمم بشكل رئيسي لتفتيت السلطة المركزية بحيث لا تستطيع واشنطن السيطرة على جدول الأعمال بشأن الكثير من القضايا.
وفي نهاية المطاف، فإن قدرة ترامب على الاختراق وتجاوز القيود المؤسسية تأتي من طبيعة الطبقة السياسية التي ستتعامل معه، وعلى وجه الخصوص من الدعم الذي سيحصل عليه من جمهوريين آخرين. فهو يريد ترهيب أعضاء حزبه الجمهوري كي يبقوا ضمن بيت الطاعة بغض النظر عما يقوله أو يفعله، وهو من الصعب على الكثير من الجمهوريين التقليديين القبول بذلك.
لكن بالرغم مما كشفت عنه هذه اللجنة فإن شعبية ترامب تزداد ضمن مؤيديه ولذلك يبدو السؤال مطروحا أكثر من ذي قبل، بعد كل هذه التحقيقات التي كشفت عن سوء إدارة ترامب وفظاعة تصرفاته في البيت الأبيض، هل من الممكن أن يترشح مجددا في عام 2024؟