اندلعت الثورة في مصر وليبيا وتونس وأسقطت أنظمتها، أما سوريا فقد حُكِم فيها على الفرد أن يكون منصاعًا منذ نعومة أظفاره؛ من "اتحاد شبيبة الثورة" في المدرسة الابتدائية حتى أولوية البعثي في الوظيفة بعد التخرج من الجامعة، وأولوية خطيب المسجد البعثي أو المرتبط أن يتسلم الإمامة بمسجد بقرية نائية.
لا يمكن لمنظمات مجتمع مدني أن تتشكل في ظروف الحكم التعسفي للأسد، ولم يتبق سوى التنظيمات النقابية التي حكمها ودجّنها أيضًا. أمام ذلك، يذهب الانتباه إلى أن جماعة أهلية يمكنها القيام بذلك، وذاك يعني السنة؛ لكن السنة لم يمتلكوا مقومات الجماعة الأهلية؛ فهم الأكثرية التي تتنوع وتتخالف والمتراخية أصلاً نظرًا لأكثريتها.
ورغم معاناة السنة، لم يكن الوعي السني المتجاوز للطائفية أن يحشر نفسه بثورة تحت هذا الإطار، ما جعل البلاد في وضع عدم قدرة أي من المجتمعات الأهلية على فعل شيء من الثورة. وقد يحضر مثال آخر وهو "الكرد كأقلية"، ولكن النظام ربط أحزابها به.
ولن نجاوز الحقيقة إذا قلنا إن أحداث الكرد 2004 لم تكن ثورة بل أحداث اعتراض لم تنتظم، ولم تحمل علامات عمل ثوري، وصارت شغبًا كما يحدث في أوروبا؛ مع الانتباه إلى أنها قامت ليس بقيادة أحزاب، بل من شباب منفعلين ومتأثرين وبلا أي وعي سياسي بسقوط بغداد، وباحتمال تدخل أميركا لصالحهم كما تدخلت في العراق.
من ذلك كله، ما كان للثورة أن تحصل في نسق أو نسيج مجتمع مدني غير موجود أصلاً، ولا نقابة عمالية أو طلابية، بل بقي التعويل على أدنى نقاط الهامش في الحياة السياسية والفعالية المعدمة في القاع، وهي المواطن العادي العامي. فانطلقت من قلة من الشباب ومن معهم، بلا تنظيم وانخرط فيها الأفراد الذين تفلتوا من شبكات/ أنساق منظمات نقابية مفرغة، ومثلت متنفسًا ممكنًا، بعد انطلاق ثورات تونس ومصر بشرارة بسيطة من عامة الناس؛ فصارت ساحة لكل من يريد الانضمام.
نظم الحراك نفسه بفعل الشباب بجزء يسير من المثقفين الذين دخلوا بتؤدة ولم يصنعوا رصيدهم بين شباب مندفع ارتجل الثورة. بالتساوق مع ذلك، بدت ضرورة تمثيل الثورة سياسيًا فظهرت المشكلة الأهم وهي عجز النخبة السياسية المعارضة عن وضع إطار عام للحراك وقد فشلت في مهمتها، حيث عملت على تمثيل الثورة واللحاق بها على امتداد أكثر من عقد زمني يمكن القول فيه "إن الشعوب تجاوزت نخبها".
في المستوى الدولي لعبت القمة الروسية الأميركية "كيري ولافروف 2012م"؛ وخروجها بقرار عدم تمويل التسلح المنظم لإسقاط النظام؛ لعبت دوراً للدفع باتجاه تدفق التمويل غير الرسمي الذي لابد أن يكون إسلامياً أهلياً، ثم دخل في تنظيم نفسه فيما بعد.
ولكنها وقعت في الارتجال الذي وقع فيه الشارع المنتفض، ويبدو مبررًا بعد رؤيته سقوط نظامَي تونس ومصر. لكن ارتجال النخب السياسية ذات الاطلاع والعمل السياسي والأكثر معرفة بتوجهات المجتمع الدولي ومعادلات مصالحه شكل المعضلة الأولى. أما فيما يخص جملة الأخطاء التي طالت جميع من في الثورة؛ فقد ظهرت لدى القواعد الشعبية كنتيجة طبيعية، إذ إنها كسائر أبناء المجتمع السوري المؤسس على الإذعان القسري والطاعة والتنفيذ والتحييد عن السياسة، ولم تضطلع بدور سياسي ما جعلها تفتقد الوعي السياسي أصلاً. فلجأ هذا الشارع إلى ما يمكن تسميته الفطرة السياسية التي تنطلق من تجربة اجتماعية وأعراف ودين، وتوجه بخطاب عفوي إلى رفع شعارات وطنية "سوريا للجميع، والشعب السوري واحد". لا يمكن إنكار ظهور أصوات سنية تقول بالتخلص من العلويين، كرد فعل على مظالم كثيرة، من ضحايا حماة، وأيتام منتسبي الإخوان، ومن وضع في المعتقلات من إسلاميين لم يكونوا من القاعدة ولا أشباهها. لكن المعضلة في تطوره إلى التعميم الكلي لدى قسم كبير من أولئك، وهو ما أنجزه النظام عبر تطييفه للثورة، وإطلاق عناصره وشبيحته عبارات طائفية، وتظهير موقف الطائفيين من مؤيديه خارج القنوات الرسمية تلفزيون صحافة.. إلخ. إضافة إلى إطلاقه جملة من المعتقلين الذين عمل على تكريس التشدد لديهم في السجون وتعاملات سجانيه، رغم ذلك بقي الخطاب الوطني لشباب الثورة متنًا واضحًا مُشهرًا في شتى منابر الحراك، وبقيت تلك المحاولات هامشًا صار ينمو بتطورات التطييف. في المستوى الدولي لعبت القمة الروسية الأميركية "كيري ولافروف 2012م"؛ وخروجها بقرار عدم تمويل التسلح المنظم لإسقاط النظام؛ لعبت دورًا للدفع باتجاه تدفق التمويل غير الرسمي الذي لابد أن يكون إسلاميًا أهليًا، ثم دخل في تنظيم نفسه فيما بعد. ما يعني اشتراك القوى الدولية والنظام في أسلمة الثورة.
رغم حضور فصائل بأسماء إسلامية تنهل من تاريخ وذاكرة، أو جلبًا للتمويل؛ لا ينكر أحد أنهم من ذوي التدين الشعبي، لا يحملون بعدًا طائفيًا ولا إقصاء أو حقدًا.
في المستوى الأعلى - التمثيل السياسي للثورة كان المجلس الوطني يتبع الحراك فيما يطرحه من أسماء مظاهرات؛ لكنه بقي ضحية ارتجاله وارتهانه بين خارج يريد التحكم، وداخل يسير باندفاع نظيف وقابل للتفجر. مع بدء التسلح كانت فرصة الداخل المحتقن للدفاع عن نفسه؛ وكانت فرصة الخارج في التدخل عبر الائتلاف الذي فهم أعضاؤه لعبة الدول، وأدركوا انشطارهم بين محورين، وباتت التحالفات ضمن الائتلاف مبنية على ضرورة انتصار لمحور على آخر؛ ما جعل الخطاب اليساري والعلماني يتفق مع الخطاب الإخواني في مرات عديدة. اتجهت فعالية الإخوان إلى الداخل لاحتكار الصوت الإسلامي ففشلت في احتوائه بوجود تنظيمات أخرى (النصرة والأحرار) مع احتفاظهم بثقلهم الخارجي في الائتلاف. في حين ذهب التيار اليساري للتشظي بين اتباع الإخوان ضمن محورهم تبعًا لمنافع عدة، أو الذهاب لمحور اتحاد الديمقراطيين وأشباهه. فذهبت نخب ثقافية كالراحل ميشيل كيلو للعمل تحت قيادة شخصيات قبلية لا ثقل لها كأحمد الجربا. قبالة ذلك فشل الجميع؛ وهو ما يفترض مساءلة واسعة للنخب الوطنية في الثورة، وهي تيار اليسار عن عدم طرح مشروع وطني يؤطر الداخل وشبابه الثائر؛ لضم أبنائنا الذين توجهت بنادقهم صوبنا بدلاً من أن تكون صوب النظام في حمى التسلح. ورغم حضور فصائل بأسماء إسلامية تنهل من تاريخ وذاكرة، أو جلبًا للتمويل؛ لا ينكر أحد أنهم من ذوي التدين الشعبي، لا يحملون بعدًا طائفيًا ولا إقصاء أو حقدًا. في حين بقيت بعض النخب الثقافية التي لم ترفع لافتة ضد النظام وعارضته من خلف الشاشات، أو ضحايا اليسار الماركسي تنظِّر فقط ضد الإسلام تحت مسمى محاربة الإسلام الجهادي والسياسي، أو الاختلاف مع الإخوان المسلمين باعتبارهم قد خربوا الثورة؛ وتتغافل عن نخبها التي شغلت تمثيلاً في الائتلاف أعلى من نسبة الإخوان، وعملت تحت جناحهم لأسباب لا يدخل بعضها في أطر المصلحة السياسية، بل النفعية المؤقتة، وشاركتهم الحل والعقد والخراب والفساد المدعى. وكأننا كسوريين وقعنا ضحية فكرة اقتسام جلد الدب قبل اصطياده من قبل نخبنا السياسية في مرحلة قوة الثورة؛ فتشظينا بفعل تناحر نخبنا السياسية. وعندما عجزنا عن إسقاط النظام، صار علينا أن نصبح ضحية لمن يريدون التنابذ في إلقاء اللوم على من كان السبب، ليصار إلى تبلور اصطفاف جديد فتح شروخًا في المجتمع السوري؛ مثّلته حروب الثنائيات؛ يزيل الحدود بين فرد من أعوان النظام وشبيحته، مع مثقف ناشط ضد النظام يدعو لإسقاط الإسلام السياسي بعيدًا عن الإخوان، ويرفع مبدأ إسقاط الاستبداد الديني الذي يتفق فيه أعوان النظام وأدعياء الثورة أيضًا، ويتم التغاضي عن الاستبداد السياسي الذي كان أساسًا لكل هذا، ما يمثل انفصالاً عن الواقع السياسي وقفزًا على الاجتماعي واشتراطاته الموضوعية التي تختزل بحروب بينية والدخول في حملة التكاذب الهائلة.
إن غياب المشروع الوطني دفع بلجوء الجموع إلى رؤية عامة أقرب إلى فطرتها الاجتماعية، وهي مثلما بدأت وأنتجت شعارات الثورة الوطنية الأولى؛ استندت إلى مرجعية يمكن أن تضمها مبدئيًا في حدود دنيا وعامة؛ فكان التوجه الإسلامي حاضرًا، ما لبث أن تبلور ضمن توجهات أكثر حدة تحت ضغط الحاجة للتسلح والتذخير، وعجز نخبها المحلية عن الإيفاء بذلك؛ مقابل نزوع التنظيمات الخارجية للتمدد في الوسط السوري.
راح التمويل الإغاثي والتسليحي لفصائل أدركت اللعبة، وصنعت خصيصاً لمثل هذا، وجاءت استجابة لرغبة حميمة لدى نخب الائتلاف الممسكة بالدعم.
إن انفتاح ساحة التجاذب السياسي بين محوري الائتلاف صار يسير وفقًا لتحالفات مرسومة دوليًا، حول الحصة من كعكة الحكم، فراح يبحث عن مؤيدين لمشروعه من فصائل الجيش الحر قديمة التشكيل المحتاجة لدعم مالي، أو الحديثة التي صار في أغلبها كتابُ التقارير ثوارًا ومسلحين بعد تحرر مناطقهم، مع علاقات قبلية وجهوية، أو مفتوحة لمن يمول؛ فصار أعضاء الائتلاف يبحثون عمن يؤيدهم، ويشكل ركيزة لهم في الدولة القادمة والعمل على فكرة "دولة ضمن الدولة" لاستلام زمام الحكم. فتشكل نسق التحزب المبني على الولاء والتحشيد بدلا من المستوى الثوري.
وفي لقاء لي مع رئيس حكومة مؤقتة سابق حول ضرورة التنسيق مع قوى الداخل، قال "ليس ما يهمني التمثيل الحقيقي ولا توجه التمويل في الداخل؛ بل صراع القوى بين كتلتي الائتلاف؛ ونحن دولة ضمن الدولة، ونريد ما يخدمنا في الوصول لها بعيدًا عن ثقله في الداخل". فراح التمويل الإغاثي والتسليحي لفصائل أدركت اللعبة، وصنعت خصيصًا لمثل هذا، وجاءت استجابة لرغبة حميمة لدى نخب الائتلاف الممسكة بالدعم؛ قبل أن تذهب لدعم المؤتمرين بأمرها بعيدًا عن رصيدهم الثوري أو الأخلاقي، ليؤمنوا لها تأييدًا ويشكلوا وهجًا وضجيجًا يضيع صوت الثوار الحقيقيين لمجرد أن الحقيقيين المؤمنين بضرورة التنظيم وجدواه، لا يمكن أن يكونوا شركاء لسلطة الائتلاف التي تريد أتباعًا.
بالتساوق مع تفريغ كثير من المؤسسات المدعومة اقتصاديا أو حرفها أو استخدامها كمنتدى رجال الأعمال السوري وهيئة تنسيق الدعم التي رفضت التدقيق في سجلاتها. لنصل إلى نتيجة مفادها حرفنا عن النقد الحقيقي والبناء بعيدا عن الصراع الأيديولوجي والتنابذ القيمي والقراءات الثقافوية الاختزالية.