يراكم الملف السوري حدثاً إثر حدث، خيبات جديدة، وجروحاً واسعة وغضباً شديداً، بخاصة من جهة من اختاروا خيار الثورة والوقوف بوجه النظام الديكتاتوري، الذي يحفل سجله وفقاً للأمم المتحدة بآلاف الجرائم على مختلف أنواعها.
وعقب كل حدث سياسي أو تواصل إقليمي أو عربي مع النظام القاتل في سوريا، الذي نبذه الجميع ذات ثورة، تبرز موجات من الغضب والاتهامات ممن يرون في التطبيع خيانة لأرواح الضحايا على الأقل، ودفاع المطبعين معه. وغضبُ السوريين على من يعيدون علاقتهم مع النظام؛ مردّه في جانب كبير منه إلى الأخلاق، فكيف يمكن لمن وقفوا مع خيار الثورة وشجعوا السوريين على ثورتهم وقطعوا علاقاتهم مع النظام يعاودون الاتصال معه ثانية؟
تشير قراءات العلوم السياسية والاجتماعية إلى أن الأفراد يفكرون بطريقة مختلفة وبعيدة عن الطريقة التي تفكر فيها الدول، بخاصة في عصر الدولة الوطنية، التي تشير معظم تعريفاتها إلى أنها الدولة التي تحرص على تأمين مصالح مواطنيها ضمن حدودها أولاً، بما ينسجم مع محيطها الإقليمي والدولي وفي حدود المعطيات والظروف المحيطة.
لا يعرف تاريخ الدول الكثير من الثبات في مواقفها السياسية من أوضاع الدول الأخرى، ويشهد التاريخ المعاصر أمثلة عدة على التحولات في المواقف سواء للدول الفاعلة وأعضاء مجلس الأمن أو الدول المنشغلة بهمومها الذاتية، بل إن الأعم الأشمل في مواقف الدول هو التحول وفقاً لمصالح ومتغيرات محلية ودولية.
أكبرُ تحول سياسي عالمي، بعد أن طوي عقد الربيع العربي، هو إعصار الحرب الروسية على أوكرانيا وتبعاتها على المستويات كلها، بل إن المؤرخين يضعونها نقطة تحول قد لا تختلف كثيراً عن نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي، أو هجمات 11 سبتمبر وكذلك غزو العراق، أو ظهور داعش وانطفاؤها. وقد فرضت حضورها وها هي تعيد تشكيل التحالفات والاستراتيجيات الغربية والشرقية على المستوى السياسي، بل وصل أثرها إلى لقمة عيش الناس في معظم بقاع العالم.
الدول في مرحلة الدولة الوطنية خاصة تستمد قراراتها ليس من السجلات الأخلاقية بل من المصالح المتحركة والتحالفات المتغيرة والتكتيكات اليومية
"العشم السوري" في من هم خارج حدود الدولة السورية كبير جداً دولاً وأفراداً، ويعود في جانب كبير منه إلى أن النظام السوري نفخ في الشخصية السورية وهم القومية العربية. والأحزاب الدينية نفخت فيهم "الحمية الدينية". والمطلعون على الثقافة الغربية وشريحة من اليساريين نفخوا كثيراً في فكرة الدولي و"حقوق الإنسان". فبات نفر كبير من السوريين على يقين بأن الحل للوضع السوري يكمن في الآخر، هذا الآخر الذي استثمر في وجعهم ذات يوم وأشعرهم أنه على قد "العّشم السوري" فيه، وقدم كل ما يجعل السوري مطمئناً إلى أن عشمه في مكانه، وبالتالي من المتوقع أن خيبة الأمل تكون ملائمة للعشم في الآخر!
المشكلة في جانب منها كانت أن هذا "العشم" يرتبط بالأخلاق والثوابت بصفته خصلة أفراد، أما الدول في مرحلة الدولة الوطنية خاصة فإنها تستمد قراراتها ليس من السجلات الأخلاقية بل من المصالح المتحركة والتحالفات المتغيرة والتكتيكات اليومية، ولعله مما يخفف على "أصحاب العشم" النظر إلى أن هذه الدول ذاتها عضَّتْ على جروحها وتواصلت مع من كانت تعده عدواً لها قبل شهور، بل إن سياسيين أميركيين تمترسوا قبل سنوات خلف مقولات إلغائية للآخر، وهاهم اليوم يتقاطرون إلى هذه الدولة أو تلك بهدف عقد صفقة أو إعادة إقامة علاقة، بعيداً عن تلك التصريحات الحادة!
تعالوا نتأمل الموقف التركي والسعودي والمصري مثلاً في السنوات الأخيرة، بعيداً عن الملف السوري، فإننا واجدون أنهم أحدثوا انقلابات كبيرة جداً في توجهاتهم السياسية وخياراتهم، ولو كانت الأخلاق مرجعهم كما نظن نحن السوريين المنحازين لقيم الثورة، لكان المشهد غير قابل للتصديق!
ما يراكم وجعنا نحن المنحازين لخيار الثورة أننا أيتام الله على الأرض، هِمنا نحو حلمنا، بذلنا له كل غال، وتشردنا، وقبلنا بالتخلي عن كل ما أنجزناه كأفراد لنبدأ من جديد ثانية حياة بعيدة عن الظروف الموضوعية للحياة الطبيعية، قبِلنا أن نبدأ بتعلم لغات جديدة مع أطفالنا، وضحَّينا بأمان أسرنا، واخترنا الحلم المؤجَّل منزلاً لما تبقى من أعمارنا!
من الطبيعي نحن أبناء الحلم الثوري التغييري أن ننتظر المدد ليس من الله فحسب، بل ممن نحسبهم أشقاء وجيراناً، وهذا عرف ثقافي ثابت على مستوى الأفراد، لكن هل يمكن تطبيقه على مستوى الدول؟
لا يخطرُ ببال مناصر أو معاد للحلم السوري بالتغيير قبل سنوات أن تأتي لحظة يغدو فيها أقصى طموحنا أن يتم تأجيل إعادة النظام السوري إلى الجامعة العربية سنة جديدة وربما أخيرة، لنلملم أكفاننا قليلاً ولنخصص وقتاً للاعتذار من الضحايا، ومن أرواح أمواتنا، ولنذرف دموعنا أمام نسائنا!
بعيداً عن غضب لحظة انكسار العشم السوري المرحلية الحالية، يبرز سؤال: ماذا أعددنا لما بعد ذلك أفراداً وهيئات مثلت الحلم أو أفادت منه أو ادعت تمثيله، أو تاجرت به أو انكسرت معه؟
هل بقي بيدنا شيء؟ وقد جربنا كل أنواع المرونة والتفاوض والتواصل والاستعطاف والقبول بأرباع الحلول؟ هل الحل يكمن في الانكسار والاستسلام لما يقوم به السياسي الذي ربط عمله بالظروف المحيطة والمتغيرات والمصالح؟
هنا بالذات يأتي دور المثقف، والاستراتيجي، والمفكر، والإعلامي صاحب الرسالة، والمبدع والفنان لن نطلب منه أن يناطح السحاب، أو يجترح حلولاً من بنيات أفكاره، لماذا لا ينظر إلى التجربة الفلسطينية مثلاً؟ كيف استطاع هذا الشعب أن يبقي حلمه مستيقظاً على الرغم من كل الجهود الدولية لإطفاء حلمه؟ هل عليه أن يمشي في طريق الإلغاء والتخوين ويبقى أسير لحظة الغضب وهي لحظة حق وصدق، أم يترك أبواب التواصل والحوار مع الآخر مفتوحة، ويحاول أن لا يغيب عن المشهد!
يبدو في لحظات كثيرة أن الاعتراف بالخسارة السياسية والمحاكمة الفردية للأخطاء مدخل جيد لاقتراح آليات جديدة، أو إنتاج الخطة (ب)، ومن غير المعقول أن نبقي اللوم على الآخر فحسب، وننسى أخطاءنا وعثراتنا وأننا لم نستثمر اللحظة الدولية والإقليمية التاريخية لإحداث التغيير حيث انشغل كثيرون بالغنائم قبل تحقق جزء من الحلم بخاصة في أعوام 2012-2013-2014؟
في الأحوال كلها، العشم يكون في الكرام وأصحاب القيم والأخلاق العالية، أما لحظة الغضب فهي ردة فعل طبيعية يقوم بها الأفراد عمن تخلوا عن حلمهم أو تواصلوا مع من هو بعرف الأخلاق ساقطٌ وبعرف القانون الدولي مجرمٌ، لكنه بعرف السياسة وتحولاتها هو قوة موجودة من وجهة نظر "كابتاغونية" ومن وجهة نظر ملف إصلاح العلاقة مع إيران مثلاً ومن وجهة هيئات المجتمع الدولي!
بعيداً عن لغة الاتهام والتخوين والرد عليها والوقوع في أسر براثنها، جديرٌ بنا نحن السوريين المنحازين لحلم التغيير ألا نراكم أخطاء وخسارات جديدة في مرحلة يمكن أن يقال عنها، مرحلة سائلة، وهي مرحلة العض على الأصابع سياسياً. فالمشهد العالمي برمته يبحث عن مخارج جديدة ومتداخلةٌ تفاصيلُه بشكل مؤلم؛ بحيث إن خرائطه غير واضحة.
أن تكون على حق لا يعني ألا يكون غضبك واعياً وباحثاً عن منافذ جديدة، وألا تحول المتعاطفين معك إلى غاضبين منك
وفي عودة إلى العنوان: نعم يحق للسوريين المتعشِّمين أن يغضبوا على إخوانهم وجيرانهم، ويغضبوا منهم، ويغضبوا لتشظي حلمهم، لكن من المهم وهم غاضبون ألا يصلوا إلى العدمية والتخوين وتدمير ما تمّ بناؤه، أو إلغاء خيوط التواصل وموجبات العشم، التي لولاها ماحدث الغضب!
أن تكون على حق لا يعني ألا يكون غضبك واعياً وباحثاً عن منافذ جديدة، وألا تحول المتعاطفين معك إلى غاضبين منك وعليك لأنهم ربما سيقولون لك: فرصُ التغيير في السياسة ليست بوقت مفتوح، وإن لم تستطع التقاطها فليس ذنب الآخر، الذي سيبحث عن مصالحه في ضوء تحولات المشهد السياسي العالمي، وربما سيضطر إلى تناسي وعوده وما قاله ذات يوم بأن نظام القمع في سوريا سيتم إسقاطه سياسياً أو عسكرياً. بل محافظة على ماء وجه من صرَّح تمّتْ إحالته إلى التقاعد أو تكليفه بملفات أخرى، بعيدة كلياً عن الملف السوري!
المشهد يتشكل من أربعة عناصر هي: الغاضبون من انكسار الحلم أو المتعشِّمون، والمغضوب عليهم أو المتعشَّم بهم، وأسباب الغضب أو العشم، والظروف السياسية المحيطة بالعشم.
لا بد من الأسئلة: كيف ندير هذا المشهد ولمن نتوجه؟ وكيف نضبط ردود أفعالنا وتوجهاتها ونواظمها؟ وكيف لا نجعل من التحولات خسارات جديدة مع إدراكنا أن المشكلة ليست بنا ونحن الذين لم نبادر بكسر العشم بنا أو زراعة خيبة الأمل! والغضب حقٌ لنا، لكن كيف نعبِّر عنه، وكيف نديره؟ هنا مربط الكلام!
المحافظة على ما بين يديك وما يحيط بك، حين لا تكون قادراً على الفعل، قد يكون أحد الخيارات، ولا يعني ذلك أن تنجرّ نحو التخلي عن قناعاتك أو أفكارك أو أحلامك! ومن المهم في هذا الظرف اللاإنساني القاسي علينا نحن المناصرين لقيم الثورة أن نجيد التوازن على مرحلة الصراط المستقيم سياسياً، كي لا نقع فيقع حلمنا معنا ويتكسر! والزمان دولٌ وتحولات ومراحل، ولكل زمان دولة ورجال ونساء...!